ثمة علاقة وطيدة بين المعمار وسلطة الحكم. وهي علاقة تاريخية قديمة متجددة تنبعث بالعديد من الصور والأشكال, وهي علاقة براغماتية مصلحية تعمل باتجاهين. فالعمارة كفن تطبيقي وكمنحى رئيس من مناحي الحضارة والثقافة كانت من الفنون التي لازمت بلاط النفوذ وصناعة القرار بالدولة. وبالرغم من أطروحات "العمارة البيئية" و"العمارة الفطرية دون معماريين" و"عمارة الفقراء" المثالية التي تنادي بأن العمارة ينبغي أن توظف لخدمة كافة فئات المجتمع وبوسائل متوفرة في البيئة وليست دخيلة عليها, إلا إن مثل هذه الأطروحات والمساجلات الفكرية النظرية منها تؤكد وبشكل غير مباشر حقيقة أن العمارة كانت تاريخيا وما تزال "نخبوية" تخدم فئات معينة بالمجتمع وتلتصق بالطبقة المتنفذة والبورجوازية وصناعة القرار. فالتاريخ يدل على أن غالبية مبدعي العمارة وحتى وقتنا الحاضر كان لهم حضور قوي وعلاقة مصلحية "ببلاط" الملوك والسلاطين والأمراء وكبار التجار والأثرياء. وما نراه اليوم من مآثر عمرانية في مختلف الحضارت والثقافات إنما هي نتائج "تلاقح" تزلف المعمار واستنفاعه على باب السلاطين والأمراء ونظرة سياسية لطبقة الحكم في توظيف العمارة, والتي كان ينبغي أن تكون فنا انسانيا مجردا يعكس قيم المجتمعات, لتصبح بدلا من ذلك وسيلة سياسية تكرس ايديولوجية "قهر" داخلية في استبداد الحكم أو خارجية في الإستعمار.
والأمثلة على ذلك تكاد لا تعد ولا تحصى, سواء تاريخيا أم في الوقت القريب والمعاصر. فمعمار الدولة العثمانية "سنان" كان مقربا من بلاط أربعة سلاطين لا سلطان واحد, إذ كان رئيس المعماريين وأشهرهم خلال حكم السلاطين الأربعة: سليم الأول وسليمان الأول وسليم الثاني ومراد الثالث. وبدائع العمارة العربية الإسلامية إنما هي عمائر تخص قصور الملوك والأمراء والسلاطين وكبار التجار والأثرياء, كقصر الحمراء بالأندلس وقصير عمرة وقصور الأمويين والعباسيين, أو كبيت الكريدلية وبيت جمال الدين الذهبي والسحيمي في القاهرة المملوكية وهم من كبار التجار والأثرياء آنذاك. ويكاد يخلو التاريخ من معمار كرس مهنته لخدمة العامة من الناس - ويكاد ذلك أن يشمل حسن فتحي صاحب أطروحة "العمارة للفقراء". فحسن فتحي يكتب عن معاناته مع دوائر الحكم وعقيلات أصحاب القرار في مصر في الأربعينيات في قبول أفكاره الحالمة, لتجده في أواخر حياته المهنية يصمم لكبار الأثرياء في دول الخليج العربي والكويت. وتتعدد الاسماء بشكل لا يحصى في معماريي العالم العربي المعاصر, بما لا يتيح لنا المقام تسميتهم, ممن لهم حضور دائم على أبواب السلاطين والملوك والأمراء. وهذه العلاقة إنما هي علاقة نفعية مصلحية مادية محضة وإن تعددت الأطروحات الفكرية وتدثرت بأقنعة الفكر والثقافة والتراث والحداثة وغيرها من نبيل القيم والأفكار وساميها.
وفي مقابل هذا السعي "الإرتزاقي" من قبل المعمار, كانت هناك نظرة سياسية من قبل الحاكم ودوائر المشورة في بلاطه بنفعية استخدام المعمار في توظيفه كوسيلة تخدم أهدافا سياسية وعلى مستويات متعددة. فهناك مستوى في تكريس هيمنة الدولة على الفرد بتقديم مفهوم "مبتدع" في العمارة المسجدية "الصنمية" الضخمة والمضخمة التي تشعر الفرد بالضآلة في مقابل سطوة الحكم, وهو مفهوم قديم تاريخيا عكسته معابد الفراعنة التي كرست "عمدا" سطوة رجال الدين والكهنة الذين كانت لهم حظوة وسطوة سياسية كطبقة مسيطرة وحاكمة. فكان مقياس الأنسان "المصغر" في هذه المعابد "الضخمة" يكافئ الواحد للمائة ويزيد. وهناك نوع آخر من التوظيف السياسي يكمن في "قمع" الفكر المضاد للدولة من خلال المعمار بشكل مباشر أو غير مباشر. والقمع المباشر عكسه نابليون أثناء الثورة الفرنسية بتوظيفه للمعمار "هاوسمان" لإعادة تخطيط مدينة باريس وبحيث تكون الشوارع عريضة ومستقيمة. فقام "هاوسمان" بإيجاد النمط التخطيطي الشعاعي للشوارع التي اطلق عليها "بوليفاردز" وهي شوارع عريضة جدا تنطلق بشكل شعاعي من ميدان, بحيث يشرف الميدان على هذه الشوارع جميعا. وهذا النمط التخطيطي يسهل ببساطة نصب المدافع في الميدان باتجاه الشوارع المستقيمة التي تنطلق منه "لقمع" الثورات مما لا تتيحه شوارع العصور الوسطى "المتعرجة". وببساطة عكست هذه العمارة والتخطيط "أقصى" نتيجة ممكنة بأقل عدد من المدافع بدلا من مطاردة الثوار في حرب شوارع "شطرنجية" أو عنكبوتية متعرجة. أما القمع الخفي وغير المباشر في توظيف المعمار لخدمة مصالح الدولة فقد عكسه تاريخيا إنشاء مدرسة ومسجد السلطان حسن بالقاهرة كنموذج للمبنى ذي الإيوانات الأربعة لتكريس وتدريس الفقه السني بمذاهبه الأربع, وبخاصة مع انتشار المذهب الشيعي المتنامي في شمال إفريقيا آنذاك مما شكل خطرا "مذهبيا" على مصالح دولة المماليك السنية. وفي عالم اليوم تتبدى مظاهر هذا القمع "غير المباشر" في سياسات التطوير والإستيطان والإسكان ومشاريع التنمية المختلفة التي تعطي المقربين والأعوان - ومن يخدم مصالح الحاكم وبدوائر متباعدة - حظوة في مشاريع معمارية وتخطيطية على حساب مصالح المجموع وحقوقهم, وبحيث تعكس رؤى استراتيجية "فئوية" بالمجتمع من خلال توزيعات مناطق التطوير الإستراتيجية في الأقاليم تبعا لنظرة سياسية.
وفي مقابل هذه العلاقات المتبادلة المصلحية الإرتزاقية للمعمار وتكريس رؤى ديمومة نظام الحكم وآليات سيطرته, تظل هذه العلاقة محلية وطنية داخلية. بيد أن هناك نموذجا آخر أخطر في توظيف المعمار لخدمة السياسة ضد الآخر وبطرق قمعية, وهو نموذج استعماري خبيث, مارسه الإستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا, حيث قام الفرنسيون بإيجاد فكرة "المدن البديلة" التي أقامها جنبا إلى جنب مع المدن التقليدية بهدف خلق عدم توازن استراتيجي يصب في غاية طمس معالم الهوية التراثية للشعوب المقهورة من جهة, ولإعلاء شأن القيم الغربية الدخيلة وعمارتها المستوردة من جهة ثانية. ولم تكن هذه سياسة استعمارية فحسب, بل كرسها عملاء الإستعمار والإمبريالية ومن بهرته أضواء حداثة الغرب. فالخديوي اسماعيل كان مغرما بمدينة باريس لدرجة أنه نقل "بوليفاردز" هاوسمان إلى عمارة وتخطيط مدينة القاهرة وبحيث غدت القاهرة ذات وجهين متناقضين – أحدهما يعود للقرن الثالث عشر تجسده عمارة المماليك وشوارع القاهرة الفاطمية وقصبة المعز لدين الله الفاطمي, والثاني يمثل الشوارع العريضة المتسعة التي تنتهي بالميدان, كميدان التحرير أو طلعت حرب, ونمط العمارة القوطية التي تعلو نصف وجه القاهرة الآخر. وهكذا فلم تكن العمارة علما فنيا جميلا بريئا فحسب, بل كانت على الدوام أداة طيعة على مرمى حجر من سياسات الطبقة الحاكمة والإستعمار بأشكاله المختلفة. وليس أدل على ذلك من العمارة الأسرائيلية التي تعكس سياسيات إسرائيلية أبعد ما تكون عن العمارة بمفهومها الحضاري, فما هي إلا تنفيذ لسياسيات ورؤى استيطانية تهويدية للأرض والشعب الفلسطيني. كيف ذلك؟
في كتاب (إحتلال مدني – سياسات العمارة الإسرائيلية), أو(A Civilian Occupation – The Politics of Israeli Architecture ) والذي شارك كاتب هذه السطور في تقديمه على قناة الجزيرة الفضائية قبل سنوات, يروي مؤلفاه المعماريان الإسرائيليان (إيال وايزمان) و(رافي سيغال) في فصول الكتاب المتعددة كيف أضحت العمارة الإسرائيلية أداة سياسية لتنفيذ سياسات استيطانية ومخططات صهيونية محضة. والكتاب أصلا أنجز على شكل معرض كان من المفترض فيه أن يمثل إسرائيل في المعرض الدولي للعمارة في برلين في 2002. وقد تم الطلب من مؤلفي الكتاب تمثيل العمارة الإسرائيلية في المعرض، ولكن – وبحسب تعبير المؤلف وايزمان- وجد أن المستوطنات في الضفة الغربية هي الشكل الأكثر تأثيراً في العمارة الإسرائيلية والتي يمكن أن تمثل بحق وبصدق مظاهر العمارة في إسرائيل. وهكذا تقدم المعماريان بمقترح يعكس المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، والتي تمثل بصدق واقع العمارة وسياسات الإحتلال. لكن ذلك بالطبع لم يرق للسياسة الإسرائيلية التي تهدف لتوظيف العمارة كفن يعكس تراث اسرائيل "المسالم" الذي ترجو تكريسه على أرض فلسطين بكل الوسائل ومنها العمارة. فالمستوطنات – وكما يتعرض لها الكتاب – تمثل أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان والتمييز العنصري واغتصاب الأرض وحقوق الشعب الفلسطيني, فأوعزت لجبهة المعماريين الإسرائيلية بوضع حظر على الكتاب وإلغاء المعرض والكتالوج الأولي. فقام الباحثان المعماريان الإسرائيليان بنشر نتيجة بحثهما في هذا الكتاب الذي سُحبت النسخ التي طُبعت منه وتم التخلص منها.
ويقدم "إيال وايزمان" الكتاب على أنه يعيد تعريف العمارة الإسرائيلية خلافا لما كرسته وسائل التعليم الإسرائيلية التي غرست في النشء الإسرائيلي أفكارا منها أن العمارة الإسرائيلية هي الجانب الإيجابي للصهيونية. بيد أن الكاتب الإسرائيلي يدحض هذه الأفكار التي نشأت عليها أجيال المعماريين الإسرائليين ويثبت حقيقة أن للعمارة الإسرائيلية وجه آخر وتاريخ مفزع ينطوي على انتهاك صارخ لحقوق الإنسان, وتحوي سياسات يعتبرها الكاتب الإسرائيلي المنصف غير أخلاقية.
ومن الأمثلة العديدة التي يستعرضها الكتاب في إطار السياسات الإسرائيلية الإستيطانية التي تستخدم العمارة كوسيلة فكرة "السور والبرج". فمستوطنات السور والبرج هي في الحقيقة مستوطنات تعاونية، أي كيبوتسات، تسببت في تهجير الفلسطينيين أهل هذه الأراضي وأصحابها. وفكرة السور والبرج هي فكرة استيطانية تشبه بناء قلعة عسكرية بإقامة سوراً للحماية وبرج لمراقبة محيطها. كما أن سلاسل الكيبوتسات كانت تبنى على شكل شبكات ومجموعات والأبراج فيها كانت تستخدم كآلية اتصالات يتم من خلالها إرسال أكثر من إشارة للمستوطنات الأخرى، وكانت المستوطنات تعمل معا كمجموعة شبكية متواصلة محصنة، بهدف زيادة الحدود الإسرائيلية وتقليص ممتلكات الفلسطينيين. وعملت فكرة السور والبرج على زيادة رقعة المستوطنات – في وجود هلامية ترسيم الحدود بين إسرائيل والكيان الفلسطيني - وإلى أن تم ترسيم الحدود لاحقا كانت المستوطنات هي المرجع الثابت والتي كرست وضع اليد على أكبر ما يمكن من مساحة أراضي الفلسطينيين. وهكذا كانت المستوطنات تقوم بوظيفتين في آن معاً، وظيفة مدنية وثانية عسكرية استيطانية لتنفيذ رؤى وسياسات مطابخ صناعة القرار الإسرائيلي.
أما المثال الآخر الذي تمخضت عنه العقلية الإسرائيلية الإستيطانية لحماية المستوطنات التي أقيمت عنوة على أراضي الفلسطينيين من جهة, ولقضم أكبر مساحة ممكنة مما تبقى من أراضي الفلسطينيين فهو الحائط أو الجدار. والجدار هو فكرة استعمارية قديمة منذ زمن الرومان و"هدريان" - ويكرس استمرارا للمشروع الاستيطاني. والحائط هو خلاصة مشروع (شارون) الاستراتيجي الاستيطاني لإحكام السيطرة المطلقة على الضفة الغربية، و قطع الطريق على قيام أي كيانٍ فلسطيني قادم. والحائط يخدم السياسة الإسرائيلية بتقسيم الأرض الفلسطينية إلى أجزاء متناثرة، وهو– بحسب تعبير وايزمان – "حالة" أكثر منه جداراً خطياً واحداً، فهناك حواجز وأسيجة وخنادق ومصدات أسمنتية موزعة في طول وعرض الضفة الغربية، ولا ينظر إليه على أنه حد خطي يفصل بين جهة اليمين وجهة اليسار فقط، بل هو واقع يخلق أجزاءً مبعثرة ومفتتة.
والخلاصة الأساسية التي نلتقي بها مع نتيجة كتاب وايزمان هي أن المعماريين مسؤولون عن الواقع الذي يخلقونه على الأرض، وإذا ظن البعض أن عمل المعماريين ينحصر في إطار المجلات الأكاديمية المعمارية والمساجلات الأدبية، فهذا خطأ بالغ. فخطر العمارة حين يقترن بالسياسة والإستعمار ومنهجياته يصبح بأثر الدبابة على الواقع ويزيد. فالمعمار قد يكرس انتهاكات لحقوق الإنسان وتكريس مصالح سياسية "فئوية" أو مذهبية أو طائفية على حساب آخرين. وفي حال الصراعات الحضارية والثقافية يصبح خطر طمس الهوية وضياع الحقوق الشرعية – كما هو الحال في فلسطين – خطرا داهما ملحا, قد تعجز قرون من العمل المضني عن إعادة إثبات الحقائق التي طمستها أيدي المعمار التي تواطأت مع السياسي والمستعمر. وتظل المسؤولية الأخلاقية والمهنية منوطة برقبة المعمار لتحمل مسؤوليته الحضارية والثقافية بعيدا عن أبواب الملوك وصناع القرار والساسة ومنهجيات ورؤى الإستعمار.
د. وليد أحمد السيد
لندن
28 – 07 – 2008