صفحات الجمال تهدى نفحات الاجتهاد
والمهندس المعمارى من أهم صناع الحياة، كفإن بعض عجيبة النحل يكمن فى سداسياتها، ونصف جمال الحياة بين جناحى فراشة .
إن حس الجمال رزق من الله وزعه على المخلوقات من بعض ما عنده من جمال وحب للجمال، كما وزع بعض الرحمة التى عنده .
فجمال الزهور الجميلة من مقدمات تلقيحها، وجمال الديك والطاووس إنما كان لأن عملية البيض والحضن صعبة تأباها الأنثى لولا جاذبية الجمال.
وقد سخر الله تعالى بإذنه بعض الناس أن يكونوا صناعاً للجمال، والمعمارى منهم، فهو يبنى النفوس والأذواق وجيد الطباع بمبادئ التناظر والتعادل والتناسق والتدرج والتناسب.
المدينة الجميلةجزء من الحياة، ولذلك حين يقول المعماريون المؤمنون بعد أن يساهموا فى بنائها أن أيها الناس آمنوا: سيؤمن منهم عدد ، وألف ضعف ذلك العدد تكون نفسه قد تعادلت وأنكرت الشذوذ واقتربت من الإيمان، بإيحاءات الجمال التى صاغها المهندسون.
يؤذنون من على عروشهم المعمارية فى آن واحد مع المؤذنين من على منابر المساجد.
إن جانباًَ من محنة الناس يكمن فى فساد الأذواق وانحراف الطباع، ولا يقبل الكفر إلا صاحب نفس معكوسة منكوسة، وسوى النفس أقرب إلى الإيمان، وبحق رصد عباس محمود العقاد انتساب أصحاب الانحرافات إلى الشيوعية حتى وصفها بأنها مذهب ذوى العاهات.
إن المعمارى قرين الواعظ فى تسوية النفوس
هى فلسفة فى الحياة ......... لكن اسمها جدار ورواق .
وفلسفة فى القيم.......... لكن يلقبونها باباً وباحة .
وحشد من المعانى .... مترجم بأقواس وأعمدة وأخشاب نافرة .
وحاجة الدعوة إلى رهط من المعمارين يشاركون فى تعليم الدعاة والمؤمنين موازين الجمال هى من جنس حاجتها إلى علماء يعلمونهم موازين المزنى وشوافع الشافعى وملاك مصالح مالك، ولو فوض الأمر إلى لدفعت ربع أذكياء شباب الدعوة إلى دراسة فنون العمارة، ولأدخلت ذلك فى الخطة وجعلته حتماً واجباً، فإن تعادل العقلانية والعاطفية فى الأداء الدعوى يلزمه الاقتران بالمعايير الجمالية، ليتم بهذه الثلاث استواء الصناعة الحيوية، ومن الخطأ أن نفهم أن الدور المعمارى يلزمه التعقد والبذبخ والتعاظم والإسراف والتطاول والتبذير والتكلف ليؤدى وظيفته، وإنما يؤديه من خلال البساطة والتواضع ومجانسة البيئة والجرى مع الفطرة واستعمال المواد الخام غير المصنعة، وبدأ الجيل الجديد من المعماريين يعود إلى هذه المعانى الأصيلة، ولعل أثر جماعة المعمارين المؤمنين فى التربية الدعوية هو الجزء الناقص فيها المكمل لآثار الحسن البصرى والجنيد .
إن مدينتنا الفاضلة كما تبنيها أبيات الشعراء وتضع قوانينها طوائف الفقهاء، فإنها تتلألأ بلمسات فنون العمارة، لتكون وحدة واحدة متجانسة بمادتها ومعانيها.
وقد كانت إنجازات السلف أيام الازدهار الحضارى كذلك .
فاس المغربية وحدة واحدة كلها، وكلها مصانة الآن محفوظة من الهدم والتغيير بإشراف الأمم المتحدة، وهى كتلة معمارية كلها، ومعلم من معالم الإنسانية حين تنضج ويسمو سذوقها.
وقصر الحمراء ومقترباته وأركان غرناطة كتلة مندمجة .
ومدارس بغداد وخاناتها وباقايا سورها ومساجدها وأزقتها ومستنصريتها علاقات جمالية مؤاداة على نسق، بعضها من بعض.
وصنعاء لوحة فنية واحدة، وكذا دمشق والقاهرة، والقيروان وتلمسان، وبخارى وسمرقند، وأصفهان واستانبول.
ولهذا فإن سواء أنفس أجيال المسلمين بالأمس هو من تأثير هذه المعطيات الحضارية الفنية كما هو تأثير الإيمان.
وجزء من محنة عواصم النفط اليوم يكمن فى الفوضى المعمارية التى عكرت النفوس حين لم يستخدم المال فى منهجية معمارية واحدة متناسقة متناسبة، وإنما استوردت مذاهب المهندسين استيراداً عشوائياً، فصار التناقض المزرى، وتوترت القلوب حتى افتقدنا السكينة .
ولهذا فإن أدوار كبار المهندسين الذين يصرون على مواصلة الارتباط بالتراث وتوحيد المستقى، مثل حسن فتحى بمصر ، وقد تجاوز الثمانين، ومحمد مكية ورفعت الجاردجى وأمثالها بالعراق: هى أدوار بطولية، وهى أدوار إسلامية إيمانية وإن لم يفهم بعضهم كل قصة الحياة ولبثت يتوهم العلمانية، لغلبة أثر المنشأة وبقية التقليد لموجة المراهقة الفكرية التى عمت العالم الإسلامى بين الحربين العالميتين على وجه الخصوص.
واليوم يسير المعمارى أحمد الرستمانى وفريقه بمكتب التراث فى دبى بخطى ثابتة ويمضى قدماً فى استلهام التراث حقاً .
إن الناس إذا عرفت مقاييس الجمال فليس أجمل من الإيمان والأخلاق والمعروف، ولذلك فإن على خطة الدعوة فى كل بلد أن تدفع مائة لدراسة العمارة، لينبغ منهم عشرة ويصلوا إلى درجة الإبداع والاجتهاد وجودة العطاء فيكون هؤلاء العشرة من صناع الحياة، بمشاركتهم فى تحسين المحيط وترويض الأذواق، وباللبنات الحضارية التى يرسونها فى أساس النهضة الإسلامية المستأنفة، وبألوف أهل الولاء الذين يضيفونهم إلى رصيد مصرف الترجيح.
بل المتأمل يذهب إلى أبعد من هذا، ويجد فى الموازين المعمارية مادة لتعميق الوعى التنظيمى والتربوى وإتقان فقه الدعوة .