بهجة العيد
في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأقبل عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما، ولما غفل غمزتهما فخرجتا..
نحن هنا أمام موقف من مواقف بيت النبوة: لقد دخل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيته يوم العيد فوجد زوجه أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ تستمع لغناء جاريتين تغنيان بإنشاد شعر قيل يوم بعاث، وهو اسم حصن للأوس وقعت الحرب عنده بينهم وبين الخزرج، واستمرت المعركة مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام فألف الله بينهم ببركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات للحديث أنه كان مع الجاريتين دف كما في مسلم أو دفان كما في النسائي.
فلما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك لم ينكره على عائشة، بل اضطجع وحول وجهه، لأن مقامه يجل عن الإصغاء لذلك.. وبعد فترة دخل الصديق فانتهر ابنته لتقريرها الغناء في حضرة الرسول الكريم، وظن أنه ـ صلى الله عليه وسلم نائم فقال: أمزمارة الشيطان عند رسول الله؟!
والمزمارة والمزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، وأضافها للشيطان؛ لأنها تلهي القلب عن ذكر الله تعالى.
هنا أقبل عليه رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال له: دعهما، أي الجاريتين، وفي رواية، "دعها) أي عائشة، ثم بين له الحكمة فقال: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا، أي أنه يوم سرور شرعي فلا ينكر فيه مثل هذا القدر من اللهو المباح.
وقريب من هذا المعنى ما جاء في الصحيح أيضًا أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، ما كان معكم من لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟
وفي رواية: فهلا بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قالت عائشة: ماذا تقول؟ قال عليه الصلاة والسلام، تقول:
أتينــــاكم أتيناكم | فحيــانا وحياكم |
ولولا الحنطة السمرا | ما سمنت فتاياكم |
وفي رواية أخرى:
لولا الذهـب الأحمر | ما حلـت بواديكم |
ولولا الحنطة السمرا | ما سمنت عذاريكم |
ومن الأمثلة التي يسوقها المحدثون على رفق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحسن عشرته ما جاء في الصحيح أنه كان للرسول الكريم حاد حسن الصوت يقال له (أنجشة) وكان يسوق إبلاً عليها نسوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يحدو وينشد من القريض والرجز وما فيه تشبيب، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ يا أنشجة، رويدك سوقًا بالقوارير) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
فسمى النساء (قوارير) لضعف عزائمهن، تشبيهًا بقارورة الزجاج لضعفها وسرعة انكسارها، والمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمن أن يفتنهن ويقع في قلوبهن حداؤة، فأمر بالكف عن ذلك.
وقد اختلف العلماء في حكم الغناء ما بين محل ومحرم، وخلاصة القول في هذا المجال أن الغناء بمعنى الصوت الحسن لرجل أو امرأة من المباحات في الأصل، ومن اللهو البريء، وبحيث يظل في حدود القدر المعقول، ولكن الحرمة تكمن في فحش القول أو إثارة الغرائز أو إظهار المفاتن أو مصاحبة خمر ومجون.. أو إسراف بحيث يتخذه ديدنه ويقصر عليه أكثر أوقاته.
ويسوق الإمام الغزالي في إيحائه تشبيهًا على إباحة القليل من الغناء دون الكثير، فيقول: (واستحسان ذلك فيما بين تضاعيف الجد كاستحسان الخال على الخد (الخال: هو النقطة السوداء على صفحة الخد)، ولو استوعبت الخيلان الوجه لشوهته، فما أقبح ذلك، فيعود الحسن قبحًا بسبب الكثرة، فما كل حسن يحسن كثيرة، ولا كل مباح يباح كثيرة).
هذا، وليكن معلومًا أن واقع الغناء المعاصر أغلبه قائم على الدنس والابتذال، وهو معول هدم للقيم، وتفتيت لبناء المجتمع بوسائل الرقص الفاضح، والغناء الماجن، والصور العارية، والتمثيل المحموم.. وهذا ما لا يمكن أن يقره العقل الراشد، فضلاً عن الدين الخالد.