وفي هذا العام السادس من الهجرة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا فكانت بشرى من الله، بفتح مكة فيما بعد، واستعد الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة وخرج معه عدد كبير من المسلمين، ولما سمعت بذلك قريش، استعدت للحرب وساق الرسول صلى الله عليه وسلم الهدي؛ دلالة على عدم نية الحرب، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، ليرى رأي قريش.
واحتجزت قريش عثمان فترة، وأشيع نبأ قتله، وبايع الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وظلت المراسلات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش، انتهت بأن أرسلت قريش سهيل بن عمرو ليعقد صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضمن بنوده وقف الحرب بين الفريقين عشر سنين، وللقبائل أن تدخل في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حلف قريش، وأنه من فر من المسلمين إلى قريش لا ترده قريش، ومن فر من قريش إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يرده الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومع أن الظاهر في بعض بنود هذه المعاهدة الظلم، إلا أنها أتاحت الفرصة لانتشار الإسلام، واعتراف قريش بالمسلمين كقوة، فدخل عدد كبير الإسلام.. بعد هذه الهدنة، أسلم بعض أبطال قريش؛ كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى الإسلام، ليعلن أن الإسلام جاء للناس جميعًا، وليس مقصورًا على شبة الجزيرة العربية.
وبعد صلح الحديبية قامت بعض الغزوات؛ كغزوة ذي قرد، وكانت ردًّا على بعض بني فزارة الذين أرادوا القيام بعمل القرصنة ضد المسلمين، وقد أبلى فيها سلمة بن الأكوع بلاءً حسنًا، وبعد تلك الانتصارات التى قام بها المسلمون كان لابد من تأديب من كان السبب في كثير من الحروب، وهم يهود خيبر، أولئك الذين جمعوا الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بايع معه تحت الشجرة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، حتى وصلوا قرب خيبر، وقد كانت كلها حصونًا، ففيها ثمانية حصون كبيرة منيعة واستبسل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى منَّ الله عليهم بفتح هذه الحصون، وأصبح اليهود صاغرين، وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبقى لهم الأرض ليزرعوها على أن يكون لهم نصف الثمار، وللمسلمين نصفها، وكانت غزوة خيبر في العام السابع الهجرى.
وبعد هذه الغزوة جاء جعفر بن أبى طالب ومن معه من الحبشة إلى المدينة، وفرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعودتهم، كما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيى بن أخطب بعد أن أسلمت، وقد كانت من السبى، وبعد خيبر صالح يهود فدك الرسول صلى الله عليه وسلم كما صالحه أهل خيبر، كما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض اليهود ومن انضم إليهم من العرب عند وادي القرى، وفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم الغنائم على أصحابه، أما النخل والأرض فقد عاملهم كما عامل أهل خيبر، ولما علم يهود تيماء بذلك بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب لهم كتابًا، يدفعون بمقتضاه الجزية للمسلمين وبعد هذه الحروب والانتصارات رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وبعد أن أدَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين واليهود، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع حتى استطاع تأديب الأعراب، وكان لهذه الغزوة أثرها في قذف الرعب في قلوب الأعراب، وبذا استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضى على الأحزاب، ليتفرغ لنشر الدعوة الإسلامية، وكانت هذه الغزوة في العام السابع الهجرى..
وفي ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى مكة لأداء عمرة القضاء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى، فعرض له
شرحبيل بن عمرو الغسانى عامل البلقاء من أرض الشام، من قبل قيصر، فأمسك الحارث، وأوثقه ثم قتله، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بالخروج لتأديب هؤلاء، فخرج ثلاثة آلاف مقاتل، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لزيد ثم لجعفر إن قتل، ثم لعبد الله بن رواحة، واتجه الجيش ناحية
العدو حتى وصل إلى مكان يقال له (مؤتة) وفوجئ الجيش بأن جيش العدو عدده مائتا ألف مقاتل مقابل ثلاثة آلاف واستقر الأمر على الجهاد.
وقاتل المسلمون واستبسلوا، فقتل القائد زيد بن حارثة، ثم قتل جعفر ثم قتل ابن رواحة بعد قتال عنيف، ثم اتفق أن تكون الراية لخالد بن الوليد الذي استطاع إنقاذ الجيش، وإرهاب الأعداء مع كثرة عددهم، ففي اليوم الثانى للقتال غير تنظيم الجيش، حتى ظن الروم أن المسلمين جاءهم مدد، فلم يلاحقوهم، بينما انسحب خالد بالجيش بمهارة كبيرة، ولم يقتل في هذه الغزوة إلا اثنا عشر رجلاً من المسلمين، وكانت في العام الثامن الهجرى.
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض القبائل العربية قد انضمت إلى الرومان، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جيش لتأديبهم، فلما ذهب عمرو ورأى كثرة عدد المشركين أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب مددًا، فبعث إليه بأبي عبيدة في مائتى رجل، واستطاع المسلمون هزيمة تلك القبائل، وعرفت هذه الحرب بسريَّة ذات السلاسل، وكانت بعد غزوة مؤتة في جمادى الآخرة في العام الثامن الهجرى.
وحدث أن اعتدت بنو بكر -وكانت قد دخلت في حلف قريش حسب اتفاق الحديبية- على خزاعة التى دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره، فقال له النبى: (نصرت يا عمرو بن سالم) وعلمت قريش أنها نقضت العهد، فذهب
أبو سفيان إلى المدينة ليسترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رجع دون فائدة، وتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف مقاتل من الصحابة لغزو مكة دون أن تعلم قريش بذلك، وفي هذه الأثناء أسلم أبو سفيان، ولما قرب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة كان أبو سفيان قد رجع
ليخبر القوم.
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة منتصرين فاتحين، واتجه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة خلفه ناحية المسجد الحرام، فاستلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود وطاف بالبيت، وهدم الأصنام التى كانت حول الكعبة، ثم نادى عثمان بن طلحة وأخذ منه مفتاح الكعبة فدخلها فوجد فيها صورًا فمحاها، وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم في قريش، ثم قال لهم: ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.. فقال: فإنى أقول لكم كما قال يوسف لإخوته {لا تثريب عليكم اليوم} اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ثم رد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، وكان قد حان وقت الصلاة، فأمر بلال أن يصعد الكعبة، فصعدها وأذن، وأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دم بعض من أكابر المجرمين الذين عذبوا المسلمين وآذوهم، فقتل بعضهم وأسلم بعضهم، ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم البيعة ممن أسلم من الرجال، ثم أخذ البيعة من النساء، وأقام الرسول تسعة عشر يومًا في مكة يجدد معالم الإسلام فيها، وبعث نفرًا من أصحابه لهدم الأصنام التى كان منتشرة في مكة، وقد كان فتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
وقد كان فتح مكة مرحلة فاصلة في تاريخ الإسلام، فقد كان لقريش مكانة عظيمة بين القبائل العربية، فلما رأت القبائل قريشا دخلت الإسلام، أسرعت القبائل تدخل في دين الله أفواجًا، ولكن مسيرة الجهاد لم تقف، فلقد أبت بعض القبائل العربية أن تدخل الدين الجديد، وألا تستسلم كما استسلمت القبائل الأخرى، وكان من بين هذه القبائل هوازن وثقيف، وانضمت بعض القبائل الأخرى تحت قيادة مالك بن عوف، وخرج الجيش الإسلامى ناحية (حنين) وكان مالك بن عوف قد سبقهم إليها، ووزَّع الجيش في الوادي، ولما نزل المسلمون الوادي رشقهم العدو بالنبال، حتى تقهقرت كتائب المسلمين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع شمل المسلمين الفارين وأعاد للجيش انتظامه، وحاربوا العدو، ونصرهم الله عليهم وغنموا غنائم كثيرة، وتفرق العدو إلى الطائف ونخلة وأوطاس.. وغير ذلك من الأماكن، وقد كانت هذه الغزوة في شوال من العام الثامن الهجري.
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن معظم جيش هوازن وثقيف دخلوا الطائف، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شوال وحاصرهم حصارًا شديدًا عدة أيام، وبعدها رفع الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار عنهم فقال له بعض الصحابة: يا رسول الله، ادع على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم، وبعد تقسيم الغنائم جاء وفد هوازن مسلمين، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم غنائمهم، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رد الغنائم لوفد هوازن، فاستجابوا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بعدها اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى المدينة.
وفي العام التاسع من الهجرة، سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرومان تستعد للقاء المسلمين، وقد تجمع معها بعض القبائل العربية من النصارى، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خارج لقتال الروم، ودعا إلى الجهاد والإنفاق، وأنفق الصحابة من أموالهم الكثير، ولم يتخلف عن هذه الغزوة إلا المنافقون وثلاثة من المؤمنين، وقد كان هذا الوقت شديد الحر، إلا أن المسلمين جاهدوا أنفسهم في الخروج للجهاد، ولم يكف الزاد، وسمي هذا الجيش بجيش العسرة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في رجب من العام التاسع الهجري تجاه تبوك، حتى وصل إليها وعسكر فيها خمسين يومًا.
ولما سمع الروم به خافوا، فلم يخرجوا لقتال المسلمين، وجاء إليه بعض الرومان واصطلحوا معه على دفع الجزية، وانتشر الخبر في الجزيرة العربية، فازداد الإسلام قوة إلى قوته، ورجعت إليه القبائل التى كانت تنوى الاحتماء بالرومان، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان من هذه السنة مظفرًا منتصرًا، وفي هذه السنة توفي النجاشى ملك الحبشة، وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، كما توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومات رأس المنافقين عبدالله بن أبى بن سلول.
وفي ذي الحجة من العام التاسع الهجري بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الحج، فحج بالمسلمين، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا، فأتت القبائل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متتالية متتابعة معلنة إسلامها لله، وفي
ذي الحجة من العام العاشر الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وحج بالناس حجة الوداع، بعد أن أعلمهم أمور الدين، وخطب فيهم خطبة وضع فيها الأسس التى يسيرون عليها في حياتهم استكمالا للرسالة التى جاء بها إلى الناس.
وفي أوائل صفر من العام الحادي عشر الهجري خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وصلى على الشهداء كأنه يودعهم، وفي ليلة من الليالى خرج إلى البقيع فاستغفر للموتى، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما اشتد عليه المرض أمر أبا بكر أن يصلى بالناس، وفي هذه الأيام كان الرسول يخرج للناس إذا وجد خفة في نفسه، فخرج إليهم ذات مرة، فوعظهم وذكرهم، وألمح بأن أجله قد اقترب، ولم يفهم ذلك من الصحابة إلا أبو بكر، وقبل أن يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم بيوم أعتق غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده.
وفي اليوم الأخير من مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فجر يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة، فرفع الستار ورأى المسلمين يصلون الفجر، فتبسم وفي وقت الضحى صعدت الروح الطاهرة الزكية إلى ربها بعدما أدت ما عليها فحزن الصحابة -رضوان الله عليهم- حزنًا شديدًا لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وغسلوا الجسد الشريف ليلة الثلاثاء من غير أن يجردوا الرسول صلى الله عليه وسلم من الثياب، وحُفر قبره صلى الله عليه وسلم في حجرته، ودخل الناس جماعات يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ما أدى ما عليه من أمانة الله، فصلوات الله وسلامه عليه.