هو أحد علماء الأزهر الذين كتبوا أسماءهم بحروف من نور في تاريخ العلوم الشرعية واللغوية. وهو أحد الفرسان الذين ظلموا عندما لم ينالوا حقهم من الشهرة مثل عمالقة غيره من وزن العلامة محمود شاكر وأخيه أحمد شاكر ومحمود وأحمد وعائشة التيموريين وغيرهم من الباحثين العلماء كل في مجاله. ولعلنا هنا نستحضر كلمة الإمام الشافعي عن الليث بن سعد لما قال واصفا إياه: أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به...يعني أن تلامذته لم ينشروا مذهبه بعد موته وهنا يتجلى فضل التلميذ على الأستاذ أيضا. لكن صاحبنا كان له من التلاميذ الكثيرون وأبرزهم الدكتور عبد الصبور شاهين الذي ترجم له عن الفرنسية كتاب دستور الأخلاق في القرآن حيث طوف الدكتور دراز بأمهات الفضائل الإسلامية وأنشأ منها نظرية إسلامية في الأخلاق فتكلم عن الإلزام الخلقي والمسئولية والجزاء والنية والدوافع والجهد ثم تكلم في نهاية كتابه عن أخلاق الفرد والأسرة والمجتمع والدولة. على أن الحديث عن هذا العالم العملاق لا يمكن تلخيصه في مقالة كهذه سيما وأن عقلا عظيما كعقله قد توسعت مداركه بدراسة الفلسفة وحبه للأدب الذي طبع في كتاباته لغة عذبة طيعة فضلا عن قراءاته لمختلف المعارف لكن ما أود التركيز عليه هو أن هذا باب فريد في الدين الإسلامي لم يؤلف فيه الكثيرون نظرية جامعة أو بالأحرى لم ينشر مما كتب فيه الكثير ولعلنا لا ننسى ما كتبه الغزالي والحارث المحاسبي وابن تيمية وتلميذه الأثير ابن القيم وجل أئمة الصوفية وكل ما يتصل بالرقائق والتربية وهو ما أحوج ما نحتاجه اليوم في مجتمعنا. ولعل أسمى ما يمكن الاستشهاد به هنا هو ما قاله الصحابي ابن عمر حينما قال: تعلمنا الإيمان قبل القرآن فلما تعلمنا القرآن ازددنا على الإيمان إيماناً وهكذا تظهر لنا قيمة صاحبنا الذي تفوق على الأقدمين بتأليفه نظرية متكاملة في الأخلاق الإسلامية. كلنا يعلم أن الدكتور محمد هو ابن العلامة الشيح عبد الله دراز الذي اشتهر بشرحه لكتاب الموافقات للشاطبي في أصول الفقه وهو كتاب عمدة في بابه ولا يستطيع حتى قراءته إلا المتخصصون. وقد درس الدكتور دراز في جامعة السوربون على يد الكثير من المستشرقين الذين درسوا أيضا للدكتور طه حسين ومنهم على سبيل المثال المستشرق الشهير لويس ماسينيون ولوسن وليفي بروفنسال حتى نال درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان بمرتبة الشرف الأولى في عام 1947. على أن أهم ما أود التركيز عليه هو عبقرية هذا العالم في استخلاص نظرية أخلاقية متكاملة من القرآن الكريم الذي بدأ بدراسته في الجزء الأول من كتابه وثنى بوضع دستور لهذه الأخلاق في القرآن الكريم في سفره الجميل الماتع الذي يقع في نحو ثمانمائة صفحة. على أن أكثر ما لفت نظري في هذا العملاق هو أنه استطاع بحرفية وألمعية نادرة أن يهضم الثقافة الغربية البراقة وتعليمه الأزهري التراثي فجمع بذلك بين الحسنيين وذلك كما تقول العرب هو الزبد بالنرسيان. ولأنه بضدها تتمايز الأشياء فإن قيمة عالم وأديب كهذا المؤلف تظهر لنا جليا إذا ما عقدنا مقارنة بينه وبين الدكتور طه حسين سيما وأنهما يشتركان في أصول كثيرة منها أن كليهما أزهري قد احتك بالثقافة الفرنسية التي كانت وقتها عنصر إبهار لكثير ممن اعتركتهم حياة الفكر والعلم والثقافة آنذاك خرج بعضهم موتى وآخرون جرحى وقليل من استطاع الوقوف على قدميه بقدم راسخة يفيد بلاده ودينه بغير إحساس بدونية أو استعلاء أو استلاب حضاري. ترك لنا العلامة الدكتور محمد أسفارا ماتعة لكنها لم تكن كثيرة وربما كان هذا دأب العلماء الحقيقيين لأن العالم الحقيقي ليس مؤلفا بقدر ما هو باحث يتأني ويصبر على بحثه حتى لو كلفه البحث الواحد عمرا كاملا ومن هنا ينبغي ألا نغتر بالكم. ومن أجل كتبه وأمتعها كتاب النبأ العظيم الذي أنصح قرائي بالاطلاع عليه فهو سفر ماتع يبحث في القرآن ويورد الشبهات حوله ويرد عليها بأسلوب خلاب يجمع بين العلم الشرعي واللغة والمنطق والفلسفة وغيرها وغيرها مما أجاده ذلك العالم الحبر. وهناك مؤلفات أخرى أثبت فيها فقها عميقا في مقارنة الأديان والدراسات القانونية أيضاً. لم يكن عالمنا مفكرا منعزلا يعيش في برج عاجي بل لعلك يا عزيزي القاريء تتعجب إذا ما علمت أنه قد طاف السفارات الأجنبية بمصر إبان ثورة 1919 محاضرا باللغة الفرنسية التي أصر على تعلمها آنذاك ليشرح قضية بلاده أمام ممثلي دول الغربية. وليس أدل على زهده في مناصب الدنيا من أنه آثر الخمول يعني عدم الشهرة وأبى أن يتولى مشيخة الأزهر لما عرض عليه الضباط الأحرار ذلك بعد قيام الثورة لأنهم رفضوا إطلاق يده بحرية في إدخال إصلاحات جوهرية بالأزهر. وإذا ما تكلمنا عن تجاربه الكثيرة مع أساتذته وأقرانه وعلى رأسه الشيخ حسنين مخلوف فإننا سنلحظ أننا أمام بناء فكري ذي قيمة هائلة تقطر كتاباته منطقا وأدبا وموضوعية ومنهجية علمية تجعلنا نتحسر على ما أصاب حياتنا الدينية والعلمية والأدبية من وهن وتصدع في حين أن لنا آباءا عظاما مثل هذا الرجل. ولعلي أنهي مقالي المتواضع عن عالمنا بالبداية التي كتبها لسفره الجميل دستور الأخلاق في القرآن حينما قال:"فإذا لم يأت عملنا هذا بشيء جديد في عالم الشرق والغرب فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقالا". وربما كان لزاما عليه أن يعلن ذلك منذ البداية لأنه عرف أنه يرتاد مجالا في غاية الصعوبة وهو مما تميز به الإسلام وهو الجانب التربوي الذي يقف غيابه الآن في حياتنا وراء جل مشكلاتنا في المدرسة والجامعة والشارع والعمل فهل لي أن أفوز الآن منك يا عزيزي القاريء بوعد باهتمام أكبر بهذا الجانب التربوي في حياتك وحياة من ترعاهم ولعلني أطمع في كرمك أكثر فآخذ عليك عهدا أن تقرأ لهذا العالم الجليل وأن تزيد في شهرته ...فما أشد حاجتنا لطرح الإحساس بالضعف واستعادة الثقة في تراثنا وأعمال آبائنا التي أعترف أنها أعمال بشر يخطيء مثلما يصيب.
*باحث بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر