"أحدهم كانت لديه شاة (مترفة) لاترضى أن تأكل غير البرسيم الأخضر، وصاحبها لايملك إلا العلف الجاف (التبن) -كما تسميه العامة- فاحتال عليها، وألبسها نظارة خضراء فصارت ترى العلف الجاف أخضر اللون فتظنه برسيما فتقبل عليه وتأكله".
كانت هذه طرفة نستمع إليها حين كنا صغاراً، ولم أكن أظن أني سأحتاج إلى تسطيرها في مقالة جادة.
حين تأملت واقعنا رأيت أننا أحيانا نرتدي هذه النظارة، لكننا نرتدينها حول عقولنا وتفكيرنا، فكثيراً ما ننظر إلى الأمور من حولنا من خلال منظار صغير نجتهد أن نحشر كل شيء داخل هذا المنظار.
وقد يكون هذا المنظار الذي ننظر من خلاله إطارنا المرجعي وتجربتنا الشخصية المحدودة، وقد يكون مدرسة دعوية أو فكرية، وقد يكون مجتمعا نشأنا وعشنا فيه وهذا المجتمع له خصوصيات وطبيعة تميزه عن غيره.
والنظر من خلال منظار محدد يؤطر التفكير، ويزيد من مساحة الأحكام الذاتية على حساب الأحكام الموضوعية التي تمثل أهم شروط التفكير الصحيح. وهذا يعني أننا سنصل في أحيان كثيرة إلى مواقف خاطئة منشؤها الخطأ في آلية التفكير والاجتهاد أكثر من مجرد القصور البشري.
ومن الأمثلة على ذلك:
1-على المستوى النظري نستوعب كثيراً تعدد المجالات والميادين، ونعتقد أن ذلك مطلب بل ضرورة، بل نتحدث عنه وننادي إليه وندعو له، لكن حين ننتقل إلى الميدان العملي فإننا نضخم ما يتفق مع اقتناعاتنا من ميادين -أو بعبارة أخرى ما يستوعبه منظارنا المصغر- ونهمش تأثير ماسواه. ويترك هذا أثره على مواقفنا، فقبولنا أو رفضنا لتلك الميادين ربما ينطلق من خلال مدى تأثيرها وتأثرها بالميدان الذي يتفق مع رؤيتنا.
2-حين نقيم مواقف الآخرين، أو جهودهم وأعمالهم وإنتاجهم فإنما نقيمها من خلال هذا المنظار المصغر. فنحن على سبيل المثال حين نتفاعل مع فكرة وتسيطر علينا، يزداد إعجابنا بمن يتفق معنا فيها، ونهون شأن من يخالفنا. أليس بعض شباب الصحوة اليوم يقبل أو يرفض العلماء من خلال آرائهم في مسائل محدودة يعتقد هو أن لها الأولوية؟ فالذين يتفاعلون معها لهم المنزلة والعلم والمكانة، ومن لهم فيها رأي آخر فهم قوم لايفقهون حديثا...إلخ.
3- حين ننظر إلى مشكلات الأمة أو مشكلات الأفراد فإننا ننظر إليها أحيانا من خلال هذا المنظار، سواء في تقدير حجمها وخطورتها، فقد نهون من شأن بعض المشكلات والظواهر، وقد نبالغ فيها ونعطيها أكبر من حجمها، كما أننا ننظر إليها من خلاله حين نتناول العلاج، فيتأثر العلاج الذي نقدمه إلى الناس بنظرتنا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك مانقدمه من حلول لمشكلات الناس التربوية، فكثير من حلولنا غير واقعية لأنها تنطلق من نظرتنا وواقعنا نحن.
إن الشخص الجاد المتزن الذي يتطلع إلى تربية جيل متميز يقدم خدمة جليلة للأمة، ويسد ثغرة لاغنى عنها، لكن حين يصدر أحكامه على جهد موجه لمجموع الناس ممن لاتستوعبه تلك الدائرة التي يتحرك من خلالها فإنه قد يصدر حكمه من منظاره هو، فيرى أن من يسعى لاستيعاب الناس، والحفاظ على جوانب الخير لديهم وتأصيلها، أو من يسعى لحماية الناشئة من التأثر والانجراف، أن هؤلاء يهدرون أوقات الأمة ويهمشون اهتماماتها!.
إن لكل امريء مايحسنه ، بل لكل امريء ما يتلاءم مع اجتهاده ورؤيته للأمور، ولا يطالب البشر أن يستوعبوا كل التجارب، ويتقنوا كل الميادين، لكن لنحذر أن نجعل من اجتهاداتنا ورؤيتنا منظاراً ننظر للجميع من خلاله.