شكلت روسيا في الآونة الأخيرة حالة سياسية مهمة لفتت انتباه السياسيين والمراقبين في العالم على السواء، وقد أعطيت لهذه الحالة عناوين عدة من قبيل "روسيا في مخاض التحول إلى دولة عظمى" أو "استيقاظ الدب الروسي".
وكانت روسيا قد انتقلت في عهد فلاديمير بوتين منذ منتصف العام 2000 إلى سنوات القبضة الحديدية، بزعامة نظام "وطني مستبد" صاغ مفهوماً جديداً للانتماء يقوم على استعادة المكانة الدولية لروسيا والحفاظ على الأمن القومي في آن.
وقد وصف المراقبون التطورات الحاصلة في روسيا بأنها تمثل مرحلة جديدة تجمع فيها بين قبضة سلطوية واسعة وثروة هائلة وبرغماتية احترافية في التعامل مع كل الأضداد.
وقد دفعت تلك النجاحات بالرئيس فلاديمير بوتين إلى استخدام خطاب سياسي يؤدي بشكل مباشر إلى إيجاد حالة من التشابك والصدام مع الغرب، من خلال دعوته إلى استعادة الهيبة الروسية ورفض التعامل مع روسيا وكأنها طرف ضعيف.
كما أن هذا السلوك السياسي من جانب روسيا قد داعب أحلام الكثيرين وخاصة في العالم الثالث، حيث يظهر بوتين وكأنه يتصدى لمهمة كبيرة، وهي إعادة التوازن إلى الواقع الدولي.
فإلى أي مدى يتلاقى هذا الواقع مع تلك الأمنيات، وهل لدى روسيا من الإمكانيات ما يؤهلها لاستعادة مجدها الغابر كقطب دولي، أم أن ذلك لا يعدو كونه مجرد سلوك ممانعة لدولة عادية؟
"
النمو الاقتصادي له أثره في دفع الطموحات الروسية إلى استعادة البلد موقعه قوة عظمى في النظام الدولي الجديد الذي تتبلور ملامحه راهنا، مما جعل موسكو تقدم على خطوات ذات طابع عسكري وإستراتيجي
"
إعادة دولنة الاقتصاد وتنشيطه
إن روسيا التي انزاحت عن ساحة الفعل الدولي في عهد بوريس يلتسين كانت دولة كساد اقتصادي ومرتجعات إن جاز الوصف، فضلاً عن تحطم المؤسساتية الاقتصادية في ظل نظام اتجه صوب الليبرالية الاقتصادية وسرقته المافيات في منتصف الطريق.
ومنذ وصول فلاديمير بوتين إلى الرئاسة عام 2000، وقيامه بدور أساسي في استعادة دور الدولة وتقليل مساحة سيطرة القطاع الخاص على الكثير من الموارد، شهدت روسيا تحسناً اقتصادياً متنامياً، ارتفع به معدل النمو الاقتصادي إلى 8% حسب تقديرات البنك المركزي الروسي.
وزاد معدل نمو الاستثمار من 8.7% إلى 10%، وبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية 130 مليار دولار، وزاد حجم الإنتاج الصناعي ما نسبته 7.7% فضلاً عن زيادة إنتاج النفط والغاز في ظل ارتفاع الطلب وزيادة أسعارهما عالميا.
وقد انعكست هذه التطورات في ارتفاع حجم التبادل التجاري الخارجي لروسيا عام 2006 بنسبة 27%، وبلغ 468 مليار دولار، كما زاد حجم نسبة الصادرات بنسبة 25% في نفس العام وبلغت 304 مليارات دولار، وبلغ فائض الميزان التجاري 140 مليار دولار.
واستتباعاً لذلك تؤكد دائرة العلاقات الخارجية العامة في البنك المركزي الروسي أن احتياطي روسيا من الذهب والعملات الصعبة بلغ في نهاية أغسطس/آب 2007 ما يعادل 416 مليار دولار، لتحتل روسيا بذلك المركز الثالث في حجم الاحتياطي من الذهب والعملات الصعبة بعد اليابان والصين.
ويعود تسارع وتيرة التنمية الاقتصادية إلى ارتفاع الطلب الداخلي الاستهلاكي والاستثماري على خلفية ارتفاع المداخيل الفعلية للمواطن الروسي، إذ ارتفعت المرتبات الشهرية الفعلية بنسبة 13.3% وبلغ متوسط الراتب الشهري أكثر من أربعمئة دولار.
إعادة إحياء التوازن الروسي
كان للنمو الاقتصادي أثره في دفع الطموحات الروسية إلى استعادة موقع البلد باعتباره قوة عظمى في النظام الدولي الجديد الذي تتبلور ملامحه راهنا، وأقدمت موسكو على خطوات ذات طابع عسكري وإستراتيجي، فمن القاذفات النووية التي بدأت بالتحليق فوق الأطلسي والهادي، والتي أعلن بوتين أن طلعاتها ستعود إلى سابق عهدها أيام الاتحاد السوفياتي، مروراً بالمناورات العسكرية مع الصين ودول الاتحاد السوفياتي السابق في إطار (منظمة شنغهاي) للتعاون في الأورال، وصولاً إلى اختبار صاروخ جديد عابر للقارات ومتعدد الرؤوس لإفهام واشنطن أن الدروع الصاروخية التي تنوي نشرها في أوروبا غير قادرة على مثل هذا النوع من الصواريخ.
كما اختبرت روسيا صاروخاً قصير المدى عالي الدقة من نوع (إسكندر إم) وقبل ذلك دشنت الغواصة النووية الأولى من الجيل الرابع التي بإمكانها حمل 16 صاروخاً بالستياً والغوص على عمق 450 مترا.
كما أعلنت روسيا عن برنامج بقيمة 250 مليار دولار لدعم قطاع الطيران حين شدد بوتين على أن روسيا لا تعتزم -بالتوازي مع الجهود الضخمة التي تقوم بها لدعم طيرانها المدني- التخلي قيد أنملة عن مكانتها في مجال الطيران العسكري.
وقد طورت الصناعات الروسية أنواعا جديدة من المطاردات مثل سوخوي 35 وميغ 35 وميغ 29 في نسخة جديدة وسوخوي 32، إضافة إلى إنجازات تقنية مهمة في مجال أنظمة الدفاع الجوي.
وكان رئيس هيئة الأركان العامة الروسية الجنرال يوري بالويفسكي قد صرح بنية موسكو تسليح عشرين كتيبة في القوات المسلحة بأحدث منظومة صواريخ روسية أرض جو من طراز س-400 حتى عام 2015.
"
التطورات الاقتصادية والعسكرية دفعت بروسيا إلى إعادة صوغ مفهوم جديد للجغرافيا السياسية يقوم على الحاجة إلى مجالات حيوية ومناطق نفوذ تعزز مكانتها وهيبتها
"
إعادة الاعتبار للجغرافيا السياسية
بعد ما يزيد على عقدين من الانغلاق على الداخل، دفعت التطورات الاقتصادية والعسكرية بروسيا إلى إعادة صوغ مفهوم جديد للجغرافيا السياسية يقوم على الحاجة إلى مجالات حيوية ومناطق نفوذ تعزز مكانة روسيا وهيبتها.
وقد تمثلت الترجمة الأولى في هذا الإطار في بدء موسكو بأول عملية استكشاف في التاريخ لقاع المحيط المتجمد الشمالي، حيث لم يخف القائمون على بعثتها التي سميت (بعثة القطب الشمالي) بأن هدفها الأساسي يتعدى حدود الاستكشاف العملي إلى تأكيد أن حدود الجرف القاري الروسي يمتد من جزر نوفو سيبرسك حتى أعماق القطب.
وترجمة ذلك، هي أن روسيا ستعلن حقها في امتلاك مثلث جغرافي عملاق تمتد قاعدته من شبه جزيرة كولا إلى أقصى حدود تشوكوتكا، وتبلغ مساحة هذه المنطقة 1.2 مليون كيلو متر مربع، أي ما يعادل المساحة الإجمالية لإيطاليا وفرنسا وألمانيا مجتمعة.
ويحتوي الجرف القاري كله بحسب بعض التقديرات على قرابة مئة مليار طن من النفط والغاز، وبحسب معلومات الهيئة الجيولوجية الأميركية سيكون بمقدور من يسيطر على الجرف أن يمتلك حوالي 25% من احتياطات النفط والغاز.
وعلى قاعدة الأهمية التي بدأت توليها للجغرافيا السياسية، تتجه روسيا نحو توسيع وجودها العسكري في منطقة البحر الأسود والبحر المتوسط لمواجهة التغييرات المتسارعة في العالم.
وحسب القائد العام للأسطول الحربي الروسي الأدميرال فلاديمير ماسورين فإن ثمة خططاً روسية لتوسيع رقعة نشاط أسطول البحر الأسود الروسي، وامتدادها إلى البحر المتوسط وصولاً إلى المحيط الأطلسي لافتاً إلى أن دائرة العمليات هذه تحد دولاً من آسيا وأفريقيا وأوروبا وفي هذه المناطق تتشكل علاقات جديدة متناقضة.
وقد أكد أهمية البحر المتوسط الذي يعتبر بالنسبة لأسطول البحر الأسود الروسي منطقة عمليات مهمة، ولفت مراقبون إلى أن روسيا تسعى إلى تعزيز وجودها في ميناء طرطوس السوري لاستخدامه نقطة ارتكاز لأسطولها في المتوسط.
أيديولوجيا جديدة في العلاقات الدولية
عدا الثقة الجديدة بالنفس التي تشعر بها موسكو جراء التعافي الاقتصادي، فقد ساهمت تصرفات الغرب تجاه روسيا واستعلاؤه واستهتاره بها حسب رأي النخبة الروسية في هذا التحول الإستراتيجي الروسي، في أن ينظر الروس إلى الغرب باعتباره ناكرا للجميل وغير ودود.
وبالرغم مما تعتبره روسيا من أنها قدمت تضحيات عديدة عبر إغلاق مراكز استخباراتها في كوبا وفيتنام، ومنحت الولايات المتحدة ضوءا أخضر لاستخدام قواعد جوية في آسيا الوسطى لدعم اجتياح أفغانستان، لم تحصل روسيا مقابل ذلك إلا على ما يهدد أمنها (وجود الناتو في كوسوفو، الثورة البرتقالية في أوكرانيا، ثورة الورود في جورجيا)، مما دفع بوتين إلى توجيه انتقادات حادة في مؤتمر ميونيخ للسياسة الخارجية الأميركية، لاسيما وضع وحدات صاروخية في بولندا والتشيك، وهاجم توسيع الناتو معتبراً أنه بادرة عدائية.
ويعتبر فيودور لوكيانوف رئيس تحرير دورية "روسيا في الشؤون العالمية" أن هذا التحول مرحلة جديدة كلياً في التطور الروسي الذي يقلل الغرب من شأنه، منذ خطاب ميونيخ أو بعده بقليل، هناك مقاربة جديدة: لا نساوم.
ويعتبر لوكيانوف أن الموقف الجديد في السياسة الخارجية أبعد مما يصفه البعض بـ"فظاظة بوتين" فهو يرى فيه محاولة من جانب فريق بوتين في الكرملين وفي وزارة الخارجية تسليط الضوء على أيديولوجيا جديدة في العلاقات الدولية.
والعرض الأكثر جوهرية لهذا النمط الجديد في العلاقات الدولية صدر عن وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي قال إن الأحادية الأميركية فشلت، وأن روسيا تتنافس معها في سوق أفكار دولية، مؤكدا أنه مع توسيع العولمة إلى خارج الغرب أصبحت المنافسة عالمية بكل معنى الكلمة ويجب أن تأخذ الدول المتنافسة الآن في الاعتبار القيم ونماذج التنمية المختلفة، وبرأيه يكمن التحدي في إرساء الإنصاف في هذه البيئة التنافسية المعقدة.
ويرى لوكيانوف نقاط تشابه مع تفكير المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، بما في ذلك الروابط الوثيقة مع الديانة من خلال الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ويقول إن الأحادية القطبية مخالفة لأوامر الله.
"
أي رئيس جديد يمكن أن يعاود سياسة التحاق روسيا بالغرب خاصة في ظل وجود رأي عام روسي تقوده رأسمالية مرتبطة بمنظومة قيم العولمة، وتسنده طبقة وسطى عريضة باتت ترفض الرجوع إلى سياسات القمع والكبت
"
خطر حقيقي أم مصنّع؟
يرى مستشار الأمن القومي السابق زيبينغو بريجنسكي أن روسيا انتهت كخطر ولا داعي لإثارة غيظها ببعض الصواريخ أو الرادارات في التشيك أو بولندا، لأن ذلك لا جدوى منه على المستوى الإستراتيجي، ويعتقد أن نسبة خطر روسيا تعادل نسبة الخطر من أن يسقط كوكب المريخ على الأرض.
ويذهب مفكر أميركي آخر (جان دانييل) إلى حد القول إن الخطر الروسي ليس أكثر من صناعة أميركية، فعادة الإمبراطوريات تصنيع أعدائها لكي تحافظ على توترها، وهو برأيه أمر ضروري كي لا تسترخي إذا ما لاحظت أنه لم يبق سوى الفراغ أمامها.
ويكشف راجان مينون أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي أن مجمل الإنفاق العسكري الروسي لا يزيد عن 8% من الإنفاق العسكري الأميركي، بل إن ميزانية البنتاغون السنوية تعادل ثلاثة أرباع الناتج القومي الإجمالي الروسي.
ويؤكد خبراء الوضع الروسي أن روسيا تفتقر إلى القدرة على الانتشار العسكري، وكذلك فإن نظام الإنذار المبكر الذي تمتلكه غير فعال ورديء، إضافة إلى ذلك فإن التطور الاقتصادي الذي تشهده مقرون بدرجة كبيرة بفورة أسعار النفط وحركة الاستثمار النشطة، في حين أن روسيا عاجزة عن تصنيع سلع ذات قيم مضافة الأمر الذي يهددها بالتخلف عن اللحاق بركب الدول الصناعية المتطورة، فضلاً عن ذلك فإن روسيا تعاني من أزمة ديموغرافية خطيرة، إذ ينخفض عدد سكانها انخفاضاً سريعاً يتوقع أن يصل إلى مئة مليون نسمة في 2050.
صورة هذه الأوضاع جعلت الكثير من الإستراتيجيين يصفون روسيا بأنها دولة ممانعة لا أكثر، وثمة كثير من المراقبين حاول شخصنة الوضع الحالي لروسيا وإعطاءه أبعادا شخصية عبر ربطه بوجود فلاديمير بوتين في السلطة، علما أن ولايته ستنتهي في العام القادم.
عندها قد يأتي رئيس جديد ويعاود سياسة التحاق روسيا بالغرب، وخاصة في ظل وجود رأي عام روسي تقوده رأسمالية مرتبطة بمنظومة قيم العولمة، وتسنده طبقة وسطى عريضة باتت ترفض الرجوع إلى سياسات القمع والكبت.
__________________
كاتب سوري
المصدر: الجزيرة