د.نبيل فاروق : بكرة أحلى من النهارده الجزء الثالث3- التفاؤل حتمىشباب هذا العصر غاضب ،ثائر ،محبط ،متشائم ،يرى الدنيا من حوله بمنظار أسود داكن ،يجعل المستقبل أمام عينيه قطعة من الجحيم ،والأمل فى القلوب معدوم ...
الشباب يتعلّم ،وينفق على تعليمه ثروة ،وفقاً للنظم الحديثة ،ثم يتخرج ويظل فى منزله ، لا أمل فى عمل ،أو وظيفة ،أو طرف خيط لمستقبل سعيد أو حتى مستقبل عادى ...
السكن مشكلة ... الوظيفة مشكلة ... الدخل شبه مستحيل ...والزواج هو أساس المستحيل ذاته ... هكذا تبدو الصورة ... ولهذا يغضب الشباب ،أو يسخرون ، من مجرد طرح عنوان هذه المقالات ... من مجرد القول بأن بكرة ... أحلى م النهاردة ....هكذا يرى الشباب الصورة ...
وهكذا يعيشها ...وهكذا يحاول أن يؤمن بها ،ربما لأن القول بأن الأمل منعدم فى كل شئ هو ما يبرر تقاعصه فى البحث عن عمل ،ورفضه للوظائف التى لا تعطيه ( البرستيج ) الذى كان يحلم به ،ليتباهى به على أقرانه ،واستمرائه لفكرة أن يظل فى البيت ،يأكل ويشرب وينام من المصروف ...ولكن الواقع ،أن هذه الصورة غير صحيحة تماماً ... بل هى صورة كاذبة ، بالدرجة الأولى ...وقبل أن ترفضوا ، أو تغضبوا ، أو تسخروا ،راجعوا معى كل ما حولكم ،ثم ناقشوا ...كل ما يحيط بك من أعمال جديدة ، تعتمد فى تسعين فى المائة من طاقتها على الشباب ..شركات الكمبيوتر ...والأتصالات ....شركات توزيع خدمات الأنترنت .... كل الأعمال الخاصة تقريباً ، أصبحت تعتمد على الشباب .
الفرص ليست قليلة إذن ،ولكن الجهد المبذول للبحث عنها هو القليل فى الواقع ...والقليل جداً ....حتى شركات الأطعمة ،تبحث عن شباب للعمل، وكل من يعمل فيها بالفعل شباب، أين تكمن المشكلة الحقيقية إذن ...المشكلة فى الواقع تكمن فى الكبار ....وفيكم أنتم ....فى الشباب ....المشكلة تكمن فى الكبار ،الذين لم يفهموا المعنى الحقيقى للتربية ،ولا المعنى الأصلى للحب ....لم يفهموا أن التربية الصحيحة هى أن يصنعوا من أبنائهم طاقة ،يمكن أن تستثمر شبابها لبناء المستقبل ،فراحوا يغذون فى أعماقهم نعرة كذابة ،تجعلهم يأنفون فكرة العمل ،باعتبارها لا تليق بالأكابر ،وهذه ما تفعله الأسر لدينا ، سواء كانت من الأكابر ، أو حتى من أصغر الصغائر....والعجيب أنه ،فى المجتمعات الغنية ،وفى الفئات الثرية ، التى لا يحتاج فيها الشباب للعمل ، تجدهم حريصين على دفع أولادهم وبناتهم للبحث عن عمل ،فى فترة الإجازة الصيفية ،ويشجعون فيهم الفكرة ،حتى يدركوا أهمية وقيمة العمل ، منذ نعومة أظافرهم .... وهذا ما وصلوا إليه بأسلوبهم فى التربية ... وما وصلنا إليه بعيوبنا فى التربية .... أما مفهوم الحب ، فهو كارثة .....ما يطلق عليه الآباء ، وما يتصورون أنه الحب ، هو فى واقعه كتلة كبيرة من الأنانية وحب الذات .
الوالدان اللذان يرفضان تعليم أبنائهم السباحة ، خوفاً من تعرضهم للغرق ، هم فى الواقع لا يحبون أبنائهم ،بل يحبون أنفسهم ،ويخشون على أنفسهم من الحزن أو الخوف أو الأسى ، ولا يخافون حقاً على أبنائهم ، فلو كانوا يحبون أبنائهم ، لضغطوا على مشاعرهم هم ، واحتملوا خوفهم وتوترهم ، حتى يتعلم أولادهم السباحة ، لكى يمكنهم مواجهة الموقف ،لو تعرضوا يوماً للغرق ... بالضبط كما يقول الصينيون : إنه من الأفضل أت تعلّم أبنك الصيد ، بدلاً من أن تمنحه فى كل يوم سمكة .... وحكمتهم فى هذا أنه حتى لو أمكنهم توفير السمكة والحماية لأبنائهم فى حياتهم ، فماذا سيحدث بعد رحيلهم ؟!.. سيتركون خلفهمأبناء لا يعرفون الصيد ،ويمكن أن يموتوا جوعاً ،لو لم يعطهم أحد سمكة .... وهذا ينطبق على كل شئ ....الحب الحقيقى أن تحتمل أنت الخوف والقلق والعذاب ،حتى يتعلّم ابنك ، أو تتعلم ابنتك ،كيف تواجه الدنيا من بعدك .
أما من يدّعون أنهم يحبون أبنائهم ،فيريدونهم آمنين إلى جوارهم طوال العمر ،فهم بحاجة فعلياً – لا مجازياً – لعلاج نفسى طويل وكثيف ... لماذا إذن نقول ، على الرغم من كل هذا ، إن بكرة أحلى م النهاردة ؟! لماذا نتفاءل ؟!... هذا أيضاً بسببكم أنتم ... بسبب الشباب .... فوجودكم ، ورفضكم ، وعلمكم ،والحياة المتطورة التى تعيشونها ، هى الأمل فى المستقبل .... هى التى تجعل بكرة ، حتماً ، أحلى م النهاردة ... عقولكم ، مع المتغيرات السريعة لهذا العصر ، ومنها وجود شبكة ، أو شبكات الانترنت ، التى تقرأون عليها هذا المقال الآن ، أصبحت أكثر تطوراً من عقول آباءكم ، مما يعنى أنكم ستتعاملون مع الحياة بنظرة أكثر تقدماً ، واكثر انفتاحاً .... وهذا سيشمل جميع المجالات ، الاقتصادية ، والعلمية ، وحتى السياسية .... الحياة حتماً ،شاء من حولكم أم أبوا ، ستتطوّر ... وأنتم معها ..... ستتطوّرون .... ولأنكم ستتطوّرون ، فستنتقلون ، حتماً أيضاً ، من عصر تقاليد عفا عليها الدهر ، ولم يعد يناسبها الزمن إلى عصر جديد ، تكون الريادة فيه للعقل ... والمنطق .... والعلم .
والمشكلة هنا ، التى لم تنتبهوا إليها ، فى غمرة إحساسكم بالغضب والإحباط ، ليست فى أن تتفاءلوا أو تتشاءموا ... المشكلة الحقيقية فى أن تدركوا أنكم لا تملكون سوى التفاؤل ... والتفاؤل وحده ... لأن الإيمان بالله ، وبأنه خالق الكون ،ومسيّر مقاديره ،يجعلنا نؤمن بأن بكرة ، حتماً أحلى م النهاردة ، أما التشاؤم ،فيعنى عدم الإيمان بالله سبحانه وتعالى ،وبأنه لا يقود العالم دوماً إلى الأمام ... التفاؤل إذن ليس خياراً .... إنه حتمية .... من ناحيتى أنا ،أرى الحياة دوماً بمنظار متفائل ،حتى عندما كنت صغيراً ،أبحث عمن يقتنع بى كاكاتب ،ويجد الجرأة على أن ينشر لى ولو قصة واحدة ... أيامها رفضونى ،وأحياناً بمنتهى العنف ،أكثر من مرة ... وأكثر من مرة كنت أسقط .... وأسقط ... وأسقط .... ولكننى لم أفقد الأمل أو روح التفاؤل لحظة واحدة ،بل كنت أسقط لأهب واقفاً على قدمى مرة أخرى ،وأعاود المحاولة لمرة ثانية ... وثالثة ... ورابعة ... وخامسة ... روح التفاؤل فى أعماقى ، وإيمانى بالله سبحانه وتعالى ، منعانى من الإستسلام ، أو من اليأس .. وبعد محاولات فاشلة عديدة نجحت ، بتوفيق من الله عزّ وجلّ .
وفى المؤسسة العربية الحديثة ، وعلى يد الأستاذ حمدى مصطفى ،ظهرت أوّل رواية إلى الوجود ... ثم تلتها روايات ، وروايات ، وروايات ... ومنذ عملى الأوّل ، لم يواجهنى النقاد إلا بالتجاهل ، ثم الهجوم ،ثم الغضب ،والاتهام ... والسخرية أحياناً .... ولكن روح التفاؤل جعلتنى استمر ... واستمر .... ، وتخطّت مؤلفاتى حاجز الخمسمائة عنوان ، ثم كانت المفاجأة ،وفزت بجائزة الدولة التشجيعية فى الأدب... وكل هذا بتوفيق من الخالق عزّ وجلّ ... الخالق الذى من إيماننا به أن نتفاءل ،وأن نوقن من أن بكرة ، هو حتماً ،وألف حتماً ،أحلى م النهاردة والفكرة ليست رومانسية أو دينية فحسب ، ولكن العلم أيضاً يؤكّد أهمية الإيمان بأن بكرة أحلى م النهاردة ... ولهذا مقال ... قادم بإذن الله.
د.نبيل فاروق