كان مصراً على مشاهدة الزرافة ....... وكأن حديقة الحيوان بفدادينها المترامية الأطراف وأقفاصها المفتوحة والمغلقة قد أختزلت في ذهنه الطفولي المتوقد في الزرافة ، لم يعر أي من الاقفاص والمراتع التى مررنا أمامها في مداخل الحديقة وممراتها في الساعة الاولى انتباها وكأنه في مهمة رسمية لا يصح أن يشغل نفسه الفتية بشيئ سوى الزرافة......ولما تراخت خطوات المجموعة التى تتراوح أعمارهم المباركة فيما بين السبعين والرابعة بعد زيارة مملة بالتأكيد بالنسبة له لبيت الزواحف تجرأ وأعلن في إصرار جاد لا يثنيه شئ وقد أوثق قبضته على كفي وقال في لهجة آمره يشوبها الرجاء ويغلفها عشمه الأكيد في عدم رفض عمو لؤي لطلبه " يا للا يا عمو علشان نروح نشوف الزرافة " وسرت معه مدعيا انى أعرف طريق بيتها ،متظاهراً أنى أقوده مخفياً أنه يسوقنى
ببساطة لا تناسب جدية الموقف في نفس إياد ألقيت السؤال على عامل توسمت فيه معرفة العنوان ..... وبنفس البساطة التى لا تناسب فداحة الخطب هذه المرة جاءنا الخبر .......... الزرافة ماتت ........... لم أشأ بل لعلي بصراحة لم أجرؤ على النظر في عينى إياد في هذه اللحظة ذلك أنى عددت نفسي مشاركا في هذه الصدمة بتكاسلى عن تلبيه نداءه مذ دخلنا الحديقة قبل ساعة. وأنى أرجأت تلبية رغبة كل الاطفال في تأكيل الحيوانات والتقاط الصور لهم وهم يفعلون إلى أن نصل إلى الزرافة ولسوء حظى أصررت على الزرافة والزرافة فقط ........ بعد صاعقة الخبرحاولت تبسيط المسألة شغله بكلام فارغ آخر لست مقتنعاً به أصلاً
رثيت لخياله الطفولي مرة وأشفقت على برائته مرات، لم أسأله أو أبويه عن المدة التى كان يحلم فيها برؤية الزرافة فهي بالتأكيد لا تقاس بأيامنا بل تقاس بأيام الطفولة وأحاسيسها الغضة وأحلامها الرقراقة ..... لم أحاول أن أتحسس ألمه خشية أن أفتح عليه باباً لا يسد من السخط على الدنيا والظروف والأحوال فالوقت أمامه متسع عندما يكبر لكل هذا وغيره كثير، وشاغلته بكلمة قالها العامل بعد ما دهشنا بخبره بأنهم بصدد شراء أو استقدام أخرى جديدة ولكنى خشيت أن أعد أيادا بشئ
سرنا في طرقات الحديقة روادا لبقية المجموعة لا اعرف ماذا كان هم إياد حينها ، أما أنا فكنت مهتما بتدبير بديل له ولمن معنا من أطفال لموضوع التصوير أثناء إطعام حيوان ما ، ولم يخرجنى من أسر هذه الفكرة إلا صوت قارئ القرآن مجلجلا من مكبرات الصوت من مسجد الحديقة فقد آذن وقت الجمعة بالإقتراب ...... وإذ بإياد يشد يدى متسائلاً في بديهية لا مثيل لها "يا عمو هم مشغلين قرآن علشان الزرافة ماتت" .......... بعد أن أنفجرت ضاحكاً أدركت بعضاً من حجم الألم وفداحة المصاب في نفسه المحبة للحياة والأحياء