يقال في مجال المعمار أن مقاول الهدم لا يصح أن يقوم بالبناء والعكس صحيح أما المهندس فلم نسمع ما يشينه إذا قام بمقايسة هدم وهو المعروف عنه تخصصه في البناء. كنت قد قمت بعمل مقايسة هدم لمباني سلخانة شتوتجارت القديمة في ألمانيا أيام عملي بمكتب برنر وشركاه وكانت تجربة ثرية ومفيدة. أما هذه المرة في الصالحية فمهمتى كانت هدم مسجد أو لنقل هدم جزء من مسجد في محاولة للإبقاء عليه. ونهاية القصة أن التوصية كانت بهدم المسجد كله. ليست أحجية ولكنها مهمة هندسية معقدة أسردها باختصار ليزول اللبس. بنى أصحاب المزرعة المسجد على حدود مزرعتهم المطلة على الطريق العمومية دون تصريح رسمي بالبناء ولما ضمت الطريق لهيئة كبري لتقوم بتوسعتها لخدمة مشروع قومي كبير صار موقع المسجد الذي افتتح قبل أقل من عام فقط في مسار الطريق وحرمها المنتظر. وكانت مهمتي كمعماري أن أراجع المخطط المنتظر للطريق وأقارنه بوضع المسجد وأحدد أي جزء يمكن الاستغناء عنه من المسجد لتحقيق الطلبين في آن واحد ، الإبقاء على المسجد الجديد أو أكبر قدر منه وتنفيذ الطريق الذى هو أمر لا بد منه بل وفي حكم المنتهي إذ بدأ العمل فعلياً في أكثر من قطاع منها.
ذهبت إلى الصالحية من أجل هذه المهمة مرتين لا ثالثة لهما . مررت في رحلتي إلى هناك بالمناطق الشهيرة للزراعة بالرش الدائري التى ارتبطت سياسياً بالرئيس الراحل أنور السادات وصهره الراحل أيضاً عثمان احمد عثمان وكنت قد رأيتها في الصور فقط وقبل ذهابي لهناك راجعتها على جوجل ايرث. مناظر بديعة ورائعة تلك التي رأيتها على طول الطريق ومررنا على مدينة الصالحية الجديدة المنتمية إلى الجيل الثاني من المدن الجديدة بمصر وإن كانت بمقياس أصغر بكثير من قريناتها .
في المرة الأولى قارنا المخططات الأصلية للمسجد بما تم أنشاؤه وقسنا المساحات المحيطة به من كل جانب ووضعنا بدائل لاستغلال الأرض في حال استحكم الأمر بما لاحت به النذر الإدارية للقوم، ودرسنا النظام الإنشائي للمسجد وسلمه ومأذنته وملحقاته.
في المرة الثانية توقفنا قبل بغيتنا لصلاة المغرب في مسجد يناظر في حالته إلى حد كبير مسجدنا محل التقرير، بالطبع سوغ لنا فقهنا أن نجمع إلى نية صلاة المغرب جماعة على وقتها نية دراسة الموقف لما في ذلك من مصلحة للمسلمين وما أجلهما من نيتين وعلى الله القبول ونسأله الإخلاص في القول والعمل. بعد الصلاة خرجنا نقيس المسافات المتروكة أمام المسجد من طرفيه إلى حافة الطريق المرصوفة ودونت ما قست على كروكي وانطلقنا لنقارنه بمسجدنا الحزين. المقارنة كانت صعبة إذ أن الفرق كان بيناً جلياً . انتهت زيارتي الثانية إلى توصية باستحالة توفيق وضع المسجد مع مخططات الطريق واستحالة فنية أخرى بالأخذ من بناءة يسيراً أو جسيماً .
لخصت تقريري الحزين لصاحب الشأن وانصرفت كاسف البال لا أتهم سيدة كريمة معطاءة بتجاوز الحدود ببناءها مسجداً دون ترخيص صريح أطلقت عليه اشتقاقاً من اسم زوجها الراحل العظيم ، ولا ألوم حكومة تسعى لتحسين أحوال بلدها بتوسعة طريق شريانية تربط ميناءا دولياً بشرايين الحركة والمرور الثقيل سعياً لجذب استثمارات وتشغيل آلاف من الناس في إطار خطة كبيرة تتخطي جيلنا المعاصر وربما أجيال بعده ، ولا أعتب على صديقي الذي من أجله خضت هذه التجربة القاسية على نفس معمار مسلم ليقول تقريره الفني بعد انتهائه من صلاته ( هيا نهدم المسجد ).