الدكتور موسى الانصاري:
......................
تعد سياسة الاحتواء من نتاجات العقل السياسي المعاصر بعد أن وجد الساسة أن بين الحوار الديبلوماسي والصدام المسلح منطقة فراغ يمكن ملؤها من خلال إحداث توجيه لمسألة الصدام المسلح إلى سياسة الاحتواء لأنها صدام غير معلن وحرب حقيقية خفية أوراقها كلها بيد من يبدؤها وليس للطرف الآخر إلا أن يسلم لآلية الاستكانة والخنوع ومحاولة استدرار عطف المهاجم ومخاتلته بقبول الضرر الأقل دفعا للضرر الأكبر فتراه يتلقى ضربات الخصم غير المعلنة وغير القانونية بصمت وألم مكظوم ، أملا في أن هذه الضربات إذا لم تستطع القضاء عليه فهي تزيده صلابة وقوة وقدرة على تفعيل آلية استنزاف المهاجم وخداعه من أن تلك الضربات غير المعلنة أخذت مأخذها من الخصم وجعلته يسلم تماما زمام قياده لعدوه من خلال الإيحاء له بأن الضربات قيدته وأرغمته على أن يكون مستعدا للاستجابة لكل ما يطلب منه ، وفي هذه النقطة الحرجة بالنسبة لطرفي اللعبة خصم يحلم بقرب الحصاد وخصم يترقب يد الحصاد لينقض عليها وينهشها ، وإذا استطاع أن يقطعها فهو لا يتردد لأنه يحضر لهذه اللحظة منذ أن شعر أن ضربات خصمه أخذت مأخذا في جسده!!!
إن سياسة الاحتواء غالبا ما تصنع من الضعفاء قنبلة موقوتة لا يعلم وقت انفجارها !!! فضلا على أن من يلعب هذه اللعبة عليه أن يحضر لكل النتائج لكي لا يصل إلى مرحلة من مراحلها ويفاجأ أن اتجاه اللعبة انحرف عما هو مرسوم له ولابد أن يكون قد أعد لهذا الانحراف عدة السيطرة عليه وإعادة توجيهه أو إيهامه بقبول المباغتة ليجد نفسه بالمقابل أنه لم يستطع الإفلات من قبضة الطرف المهاجم !!! أما إذا أحدث الانحراف مباغتاً فإنه يعد مفاجأة حقيقية للمهاجم فهنا قطعا ستتغير قوانين اللعبة ، بل قد يخرج الصدام من حالة الخفاء إلى العلن ، وهنا لابد من انكشاف كل الأوراق وغالبا ما يكون الإعلان بسبب قدرة الطرف الضعيف على احتواء الطرف القوي وذلك من خلال إيهامه بأن لعبة الاحتواء قد انطلت عليه واحتوته تماما ، وإذا به بعد فترة من الاستسلام المصطنع يظهر كمارد من تحت الركام ويعلن قدرته على المواجهة ، ويحرج الخصم الذي بدأ اللعبة وهو يمسك بخيوطها ، وإذا به ينتبه عندما تلوح المواجهة بالأفق بأن اللعبة خرجت خيوطها من يديه وراحت تسبح في فضاء الواقع !!! والمواجهة هي التي ستختزل منطقة الفراغ وتجعل الموقف أمام أحد الحالين ؛ إما الصدام المسلح وهو ما أجهد الخصم نفسه في إبعاد شبحه عنه ، وإما الحوار الديبلوماسي الذي لا شك في أن نظرية الغالب والمغلوب ستنهار وتجعل من الطرفين على حد سواء ومن ثم فالحوار سيجعل من الخصمين متساويين في الفرص ويتحاوران على وفق أجندة يتفقان عليها مسبقا ، وعندها سيستفز كبرياء صاحب اللعبة !!! ولابد من اللجوء للمواجهة أو ينكسر الخصم العنيد ويقدم تنازلات دفعا للمواجهة المسلحة !!! وفي ذلك ينكشف زيف هذه اللعبة المخادعة التي هي إنما أوجدها الفقيه السياسي ليؤجل زمن الانحياز ؛ إما إلى الصدام المسلح أو إلى الحوار الديبلوماسي ، وحتى هذا الحوار هو صنيعة زائفة لأنه في واقعه صراع ألفاظ ومحاولة استدراج كل طرف للآخر كي يقع في فخاخ اللعبة اللغوية ، وهذا ما يحاوله المحاور السياسي ، فهي في واقعها لعبة استعراض ذكاء المتحاورين في التصيد في فضاء اللغة المليء بالفخاخ اللغوية ، وهذه اللعبة كان العرب سدنتها في الزمن الأول لأنهم يعرفون إمكانات لغتهم وهم أصحاب ممارسة لها ومعرفة بها فلا تجد وزيرا أو أميرا إلا وتجده عاشقا للشعر أو قائلا له ، وليس هناك مثل على ذلك أوضح من عمرو بن العاص داهية العرب ـ كما يطلق عليه ـ فهو أستاذ الحوار المخادع والمخاتلة اللغوية ، ولم تكن دولة معاوية لتقوم لولا شيطنة عمرو بن العاص وقدرته على الحوار السياسي واللعب بكل الأوراق المتاحة التي يتيحها فضاء اللغة!!!
أما العرب اليوم فهم في أسوء حال حيث خدعهم الصهاينة بـ(أل التعريف عندما رفعوها من أحد اتفاقات الهدنة بعد حرب السبعة والستين) عندما وعد الصهاينة بإعادة الأراضي العربية المحتلة من قبلهم ، فرفعوا من مفردة الأراضي الـ(ال) فصارت أراض وصارت جزءاً بعد أن كانت كلاً ، والسبب يعود إلى أن العرب ألقوا حتى سيف البلاغة والمعرفة اللغوية وصار الأجنبي أفقه منهم في لغتهم فيعرف دهاليزها ، ويفقه سبل التصيد فيها ، وهذا مستشار السادات (نبيل فهمي) في مذكراته التي نشرتها مجلة الوطن العربي التي كانت تصدر في باريس بعد مقتل السادات يذكر أنه في مرات كثيرة يدرك السادات وهو قريب من التوقيع على كوارث لو أنه أمضاها لكان أسوء من هذا السوء الكائن الآن لان مقابل السادات كان ثعلبا سياسيا اسمه (كيسنجر) !!!
فلعبة الاحتواء هي فقه الساسة المتحذلقين دون شك ولهذه اللعبة وجهان وجه على طاولة الحوار وتتجلى فيه قدرة اللسان على الاستدراج والمباغتة ، وكثيرا ما خرج العرب من قاعات المفاوضات وهم يبتسمون لكاميرات الصحافة ، ويبكون دما وراء الكواليس !!! ووجه في ميدان الصدام المسلح وكذلك يعتمد على الاستدراج والمباغتة وفي كلا الساحتين هناك ما يسمى بمنطقة القتل التي هي غاية الاستدراج فإذا ما دخلها أحد الخصمين فعلى الآخر أن يستغل الفرصة ويجهز عليه سريعا بحركة مباغتة تجعله في الحوار مرغما على التوقيع وفي القتال مرغما على التسليم .