إنه لمن البديهي أن يكون التاريخ موضوعا ذو أهمية قصوى في البحث والتنقيب والدراسة ذلك أن فهمنا لحاضرنا وإستعدادنا لمستقبلنا يقتضيان أن تكون معرفتنا بالتاريخ وحوادثه ومحطاتة وشخصياته وقوانينه معرفة عميقة شاملة ودقيقة الى أبعد الحدود وأقصاها ؛ فكلما تعمّقنا في دراسة قوانين التاريخ كلما إتضحت صورة المستقبل الذي نصنعه بأيدينا وسواعدنا وعقولنا فنحن في نهاية المطاف نتاج لتاريخنا بسلبياته وإيجابياته ؛ إنتصاراته وإنكساراته ؛ صعوده وهبوطه ؛ ونحن إضافة الى ذلك جزء من التاريخ تاريخ البشرية في تطورها وتقدمها المستمرين الى أن يرث الله الأرض وما عليها .
ولقد تناول العلماء والباحثون والفلاسفة موضوع التاريخ وسبل الإستفادة منه من خلال محاولاتهم المتعددة لتفسيره وإكتشاف القوانين المحركة له والضابطة لتطوره وهذا ما أفرز ما يسمى بفلسفة التاريخ التي شكلت وعاءا للعديد من المدارس والمذاهب والإتجاهات المثالية والمادية والواقعية .
ووسط هذه المدارس المتشعبة والمتعددة والمتناقضة تبرز مدرسة البعث العربي الإشتراكي التي جاءت لتقدم الإجابة القومية التقدمية على جملة التساؤلات الفلسفية المطروحة خصوصا بالنسبة للوطن العربي كفضاء جغرافي يحتضن أمة مجزأة مضطهدة تتجاذبها التيارات وتتكالب عليها المصالح وتتنازعها الإرادات .
ولهذا فإن المهمة الحقيقية التي وضعت على عاتق مدرسة البعث العربي الإشتراكي كانت ولا زالت تحمل صبغة الرسالة الحضارية والتاريخية المتجددة دوما والخلاقة أبدا والإنقلابية بإستمرار وإمتياز والتي تتنزل في إطار تصحيح التناول الدارج للمشكلة التاريخية على الصعيدين النظري والتطبيقي وعلى صعيد الفكر والممارسة وكذلك وهذا هو الأهم على صعيد المنهج المتميز الذي ولد نتيجة للمعاناة والصراع والتفاعل الفكري الخلاق مع التيارات الفلسفية السائدة والتي حاولت تفسير التاريخ العربي من خلال أدوات وقوانين أفرزتها المجتمعات الأجنبية وفق ظروفها التاريخية الخاصة .
ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن مدرسة البعث العربي قد إنزوت بنفسها وإستقلّت برجا عاجيا أو أنها إنطلقت من فراغ بعد إستبعادها للقوانين العامة المحركة للتاريخ البشري ذلك أن مثل هذا القول ينفي عن مدرسة البعث أصالتها وعلميتها وواقعيتها وقابليتها للتفاعل الإيجابي مع بقية المدارس والمذاهب الفلسفية .
وعلى هذا الأساس فإن تناول البعث للمسألة التاريخية كان عبر إدراك القوانين الأساسية المحركة للتاريخ وفهمها ودراستها ومن ثمّة ملاءمتها مع مقتضيات وحقائق الميدان المتعلقة بتطور المجتمع العربي والحضارة العربية ؛ ولعلنا لا نضيف جديدا حين نقول إن أحداث التاريخ لها أسباب تدفعها الى الحدوث وهي لا تحدث صدفة أو من تلقاء نفسها وإنما تنتظم جميعها في إطار مجموعة من القوانين التي نسميها بقوانين التاريخ وهذه القوانين وإن كانت تختلف عن قوانين الطبيعة إلا أنها تعتبر في النهاية قوانين بأتم معنى الكلمة مثلها مثل القوانين العلمية والفيزيائية مع إختلاف الموضوع المستهدف للبحث والدراسة وكما قال الدكتور منيف الرزاز رحمه الله فإن : (( المنطق العلمي في التاريخ مثله مثل المنطق العلمي في الطبيعة ينطلق من دراسة الظواهر التي تقع في ميدانه ثم يربط بينها وبين ظواهر مشابهة ثم يضع قانونا يحدّ هذه الظواهر ويحدد العلاقة فيما بينها وعلى رغم أن التاريخ يخلـــــــو من مختبر مجهز يمكن أن تقاس فيه صحة هذه القوانين فإن تطور التاريخ نفسه يحلّ محلّ هذا المختبر ))-(1)-.
وقد يفهم من هذا القول إن البعث العربي يتبنى النظرية المادية للتاريخ وبصفة خاصة ما يطلق عليه إسم الحتمية التاريخية التي تعتبر أن كل الأحداث التاريخية حدثت وستحدث حسب قوانين وقواعد ميكانيكية لا دخل للإنسان والإرادة الإنسانية فيها ولا سيطرة له عليها بحيث أنه إذا عرفنا جميع قوانين التاريخ فإنه بإمكاننا التعرف مسبقا على مستقبل الظواهر التاريخية وإحتمالات تطورها وزمن حدوثها .
إلاّ أن تصوّر البعث العربي يختلف عن هذا الفهم على الأقلّ من ناحيتين إثنتين : أولاهما أن قوانين التاريخ هي في الخلاصة قوانين نسبية بإعتبارها تدخل ضمن نطاق ما يعرف بالعلوم الإنسانية وهي علوم غير صحيحة ؛ وثانيهما أن قوانين التاريخ ترتبط بالضرورة بالدور المركزي للإنسان والإرادة الإنسانية بمعنى أن للعامل الذاتي دور مهمّ وجوهري يكاد يعادل أو يفوق دور العامل الموضوعي.
ومن هناك فإن التطور التاريخي ليس رهينا فقط بتطور العوامل الموضوعية ّأو ما تسمّيه المدرسة الماركسية الأورثوذكسية بالمادية التاريخية وإنما هو كذلك مرتهن بتطور العوامل الذاتية المتعلقة بالإنسان ودوره في التغيير وبصمته الثابتة في كلّ حدث تاريخي ولهذا فإن نسبية القوانين التاريخية تفضي الى حقيقة مهمة للغاية وهي أن تلك القوانين نفسها في تغير وتطور مستمرين بفعل الإنسان والإرادة الإنسانية فكلما تطور التاريخ وخلقت أوضاع مستحدثة كلما إستنبط الإنسان بالمقابل قوانين جديدة تختلف عن تلك التي كانت سائدة قبل حدوث التطور والتغيير وبالتالي يصبح الإنسان فاعلا ومولدا للحركة التاريخية بعد أن كان منفعلا ومتولدا عنها وهكذا في علاقة جدلية يكون منطلقها ومنتهاها الإنسان كغاية ووسيلة بوصفه عنصرا أساسيا من عناصر التطور التاريخي ؛ هذا التطور الذي يشكل أساسا لفاعلية الإنسان لأن القوة المعبرة عن حيوية التاريخ تكمن في أولائك الذين يمارسون أدوارهم في المراحل التاريخية المتعاقبة بوعي وحرية وإرادة وإختيار دون أن يكبلوا أنفسهم بقوانين ميكانيكية أو يتّكؤوا على العوامل الموضوعية مكتفين بمراقبة عملية التطور وإنتظار تحققها التلقائي تحت تعلّة ما يسمى بالحتمية التاريخية .
فمن العبث والحالة تلك إلغاء دور الإنسان والعامل الإنساني في التاريخ وإعتباره مجرد أداة ووسيلة منفذة لإرادة أعلى ولقوانين لا تأثير له عليها ؛ ومن التعسّف كذلك جعل الإرادة الإنسانية والفكر الإنساني مجرّد إنعكاس للمعطيات والعوامل المادية وتمثّل لها لأننا بذلك نكون قد أعدمنا أي تأثير أو دور للعوامل الذاتية في التاريخ وجعلنا من هذا الأخير نتاج حتمي لجملة من القوانين الموضوعية المستقلة تماما والمنفصلة عن اّلإنسان ودور الإنسان وفاعلية الإنسان .
ومن هنا يأتي تأكيد مدرسة البعث العربي الإشتراكي على دور العامل الذاتي ودور الفكر في إحداث الإنقلاب التاريخي من خلال التفاعل الحي والجدلي مع المعطيات الموضوعية المتعلقة بكل مرحلة من مراحل تطور المجتمع العربي والحضارة العربية إذ يقول القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله : (( الفكر في حدّ ذاته قوة تاريخية وقوة ثورية فمجرد وضع القضية العربية في صيغة فكرية شاملة كان أول مساهمة في تركيز الحركة الثورية على أسس صلبة )) –(2)- .
وهنا يبرز دور الفكر وتأثيره في إحداث الإنقلاب على مستوى البنى التحتية والفوقية معا ذلك الدور الذي أنكره البعض وإستبعده البعض الآخر بتعلة تأثير البنى التحتية على البنى الفوقية والعوامل الموضوعية على العوامل الذاتية والعامل الإقتصادي بصفة خاصة على بقية العوامل الإجتماعية والثقافية والنفسية والدينية بشكل أصبح معه العامل الإقتصادي محور التاريخ وسبب حركته وتطوره ؛ وهؤلاء الذين يقولون بمبدأ التأثير المطلق للعامل الإقتصادي في إحداث التطور التاريخي هم أبعد ما يكون عن الفهم العلمي المدروس للنظرية الماركسية نفسها وقد كان هؤلاء محلّ إنتقاد " إنجلز'" في رسالته الشهيرة الى " بلوخ " بتاريخ 21/09/1897 حيث قال : ((وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، فان العنصر النهائي المحدد للتاريخ هو انتاج الحياة الواقعية وتجدد انتاجها ، ولم يؤكد ماركس ولا أنا اكثر من ذلك ابدا، ومن هنا فاذا استخدم احد هذا القول ليعني به أن العنصر الاقتصادي هو العنصر المحدد الوحيد ، فانه يحول هذه القضية الي عبارة حمقاء مجرد فارغة لامعني لها...)) -(3)-.
ولقد أثبتت الوقائع التاريخية صدق ما تنبّأ به البعث العربي الإشتراكي من إستحالة الإعتماد على عامل واحد ووحيد في تفسير التطور الحضاري والتغيّر التاريخي ذلك أن الحركة التاريخية كانت ولا زالت تعتمد في تطورها وتقدمها على جملة من العوامل الذاتية والموضوعية المتظافرة والمترابطة والمتشابكة والمتداخلة مع بعضها البعض والخاضعة الى مبدأ التأثير والتأثر المتبادل فلا وجود لعامل منفرد قادر بذاته على أن يحدث الصدمة المؤدية الى التغيّر التاريخي أو التطور من مرحلة الى مرحلة أخرى أعلى وأرقى ؛ بل إن ترابط العوامل المولدة لذلك التطور والتغيّر هي الحقيقة الوحيدة القائمة على مسرح الحياة الإنسانية ؛ وعندما نقول العوامل المولدة للتطور فإن القصد يتجه مباشرة الى دور الفكر والثقافة والدين والإقتصاد والتراث كمجموعة من الحلقات المرتبطة ببعضها البعض في سلسلة واحدة لا تنفصم إلا لتفقد فاعليتها وجدواها ورونقها وقيمتها التي تكمن أصلا في ترابطها الأبدي وتفاعلها الذاتي الجدلي بحيث تتأثر كل حلقة من حلقاتها بالحلقة الأخرى وتستمد منها وجودها وتضمن من خلالها بقاءها .
فالتاريخ إذن هو نتاج للتفاعل الخلاق بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية وبين البنى الفوقية والبنى التحتية وبين الإنسان ومحيطه الطبيعي والإجتماعي والإقتصادي وهو إضافة الى ذلك كلّه سلسلة من الحلقات المترابطة والمراحل المتصلة والعصور المتلاحقة التي تشكل مسرحا للصراع والتطور والتغيير وإرادة البناء والتقدّم ومحاولات الجذب الى الخلف وتعطيل حركة الإنسان بإتجاه إحداث الإنبعاث وهذا ما يجعل من التاريخ حقلا خصبا للبحث والإعتبار والتجربة والإستفادة والإستنباط والخلق والإبداع ضمن قوانين نسبية أرساها الفكر الإنساني والمجهود البشري لتحكم مرحلة تاريخية معينة ثم تترك المجال لولادة قوانين جديدة كلّما مرّ الإنسان بمرحلة جديدة في إطار حركة التطور الجدلي للتاريخ وهذا ما يؤدي بالضرورة الى رفض الحتمية التاريخية كمنهج ونظرية ذلك أن حوادث التاريخ بصفة عامة لا تتكرر ولا تعيد نفسها وكما يقول الأستاذ حازم طالب مشتاق فإنه : (( لا وجود للحتمية التاريخيـــــة إلا حتمية الإرادة الإنسانية العاقلة العاملة المقاتلة فالتاريخ يقوم على الممكنات التي يرسمها الإنسان ..))-(4)-.
ومن هذا المنطلق فإن البعث العربي الإشتراكي لم يدّعي في يوم من الأيام أنه يمتلك الحقيقة المطلقة كما لم يزعم أبدا بأن الإيديولوجية العربية الثورية قد وصلت الى الكمال النظري وأمسكت بكافة خيوط قوانين التاريخ ومحركاته وأغلقت بما وصلت إليه وأمسكت به باب الإجتهاد والتطوير والتكيف والتلاؤم مع خصوصيات المراحل التاريخية المختلفة ؛ إضافة الى ذلك فإن البعث العربي لم يضع نفسه في زاوية مغلقة تحكمها القوالب الجامدة والأحكام المعزولة عن سياقها التاريخي ومعطيات الواقع المعاش لأن من شأن مثل ذلك التوجه أن يجعل من الحركة التاريخية مجرّد صنم أو هيكل عظمي مفتقد الى الروح وعبارة عن فلسفة لا علاقة لها بالواقع وتفاصيله وتناقضاته.
ولهذا حرص منظروا البعث ومفكروه على التنبيه الى خطورة مثل هذا التوجّه من خلال نقد كلّ مظاهر الخضوع الأعمى للتاريخ وحتمياته والجري وراء أوهام الحتمية التاريخية والإنصياع الى قوانين وضعها الإنسان بنفسه ثمّ ما لبث أن أضفى عليها قدسية وهالة وإعتبرها بمثابة القرآن المنزل الذي لا يأتيه الباطل أبدا بحيث أصبحت تلك القوانين تشكّل نوعا من الجبرية والقدرية التي جعلت الإنسان مجردا من الفعل والتأثير في مسرح التطور التاريخي وفي هذا الإطار بالذات يقول القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله : (( إياكم والنظرة الجامدة فكلّ حركة معرّضة لأن تفقد من عفويتها من حريتها من أصالتها وأن تطغى عليها الشعارات التقليدية أن تصبح صنما)) –(5).
فالفكر التاريخي الحي هو بالضرورة فكر مفتوح واقعي خلاق يرفض الصنمية والأحكام القبلية كما يدين التواكل والتكاسل تحت تعلّة الإلتزام بضرورات الظروف الموضوعية وسيطرة العوامل المادية على تطور ومسار الحركة التاريخية إذ لو تقيّد لينين مثلا بالقوالب الماركسية الجامدة لما نجح أصلا في تفجير الثورة الروسية في 1917 ذلك أن قيام الثورة الإشتراكية في المنهج والنظرية الماركسية مرتبط بتوفر جملة من الشروط الموضوعية وأهمها أن تكون قاعدة إنطلاق الثورة الإشتراكية في المجتمعات الصناعية المتقدمة وليس في مجتمعات زراعية إقطاعية متخلفة كما هو حال روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين وهذا في حد ذاته يقوم دليلا على نسبية القوانين التاريخية كيفما فسرتها المدارس الفكرية المادية وفي الوقت ذاته ينهض دليلا قويا على إدراك البعث العربي الإشتراكي لحقيقة عدم وجود معطيات وقوانين ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان وظرف ومرحلة فلا غرو والحالة تلك أن يؤكد البعث العربي في مختلف أطروحاته الفكرية والنظرية على رفضه جعل التاريخ محكوما بالضررورة المطلقة لقناعته بوجود علاقة جدلية بين الطبيعة والتاريخ والإنسان الحرّ المدرك الواعي لذاته ولقدرته على خلق الحدث التاريخي .
ولعلّ المنطق الجدلي التاريخي الجديد الذي بشر به البعث العربي الإشتراكي يجد أساسه النظري في الملاءمة بين الضرورات الموضوعية والظروف القومية والإنسانية وعلاقة ذلك كله بدور العوامل الذاتية المتمثلة في الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية والقدرة الإنسانية على إحداث التغيير في بنية المجتمع إنطلاقا من الخصوصية القومية والحضارية التي ميزت الأمة العرية عن بقية الأمم في العالم ؛ وهذه الخصوصية في حد ذاتها تجسد النقيض الجدلي للحتمية وللصبغة المطلقة للقوانين التاريخية التي صاغها العقل البشري في صراعه المتواصل مع الطبيعة والظروف الموضوعية ولهذا فإن القانون الوحيد الذي يمكن أن يحكم الحركة التاريخية هو ذلك الذي يعترف بخصوصية التناقضات التي تشقّ المجتمعات المختلفة ويخطأ من يعتقد بأن تلكم التناقضات متماثلة في كلّ المجتمعات الإنسانية لأنه بإعتقاده ذاك يتعسف على التجارب الإنسانية في الشرق والغرب ويتجنى على خصوصيات النضال الإنساني عبر مختلف مراحل التطور التاريخي وكما يقول المفكّر إدوارد كار : (( إن القيم التي يزعم أنها مطلقة وخارجة عن التاريخية هي ذات أصول تاريخية ؛ إن إنبثاق قيمة معينة أو مثل أعلى معين في زمن ما أو مكان ما إنما يجد تفسيره في الشروط التاريخية للمكان والزمان ؛ فالمضمون العملي للمطلقات الإفتراضية مثل المساواة أو الحرية أو العدالة أو القانون يختلف بين حقبة وأخرى أو بين قارة وأخرى ولكلّ جماعة قيمها الخاصة التي تعود بأصولها الى التاريخ وتحمي كل جماعة نفسها في وجه غزو القيم الغريبة أو غير المناسبة ؛ إن المقياس أو القيمة المجردة هي وهم يعادل وهم الفرد المجرّد ..)) –(6)-.
ورغم إنطلاق هذا القول من فكرة الخصوصية القومية والوطنية إلاّ أنه يحمل في طياته معنى إنساني عميق ذلك أن من أهمّ ملامح الخصوصية العربية أنها ذات بعد إنساني تحرري إشتراكي في الوقت ذاته بخلاف الحركات القومية في أوروبا والتي كانت نتاج طبيعي لتطور علاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج فجاءت تحمل طابعا بورجوازيا معاد لطموحات وآمال الجماهير الكادحة وهذه الصفات التي إلتصقت بالحركة القومية في أوروبا لا يجوز أن نسقطها على الحركات القومية في العالم الثالث و الحركة القومية العربية بالخصوص ذلك أن المحيط العربي أنتج قوانينه الموضوعية الخاصة التي تختلف جوهريا عن تلك التي أنتجها المحيط الغربي بسبب إختلاف المشكلات التي عانى منها المحيطين سواء على المستوى الإجتماعي أو السياسي أو الإقتصادي أو الثقافي وهو ما أدّى الى إختلاف في النظرة الى تطور الحركة التاريخية ومسارها وأسبابها المباشرة والغير مباشرة والعوامل الدافعة لها والمأثرة فيها .
وهنا لا بد من التذكير بأن مدرسة البعث العربي الإشتراكي كانت سباقة الى التأكيد على الإختلاف الجوهري والبنيوي بين الفلسفة القومية العربية وبقية الفلسفات وبصفة خاصة الفلسفة الماركسية على إعتبار أن تلك الفلسفة قد إنطلقت أساسا من تناقضات العالم الصناعي المتقدم فجاءت حلولها متلائمة الى حدّ ما مع مشكلات حقيقية وتناقضات حقيقية واجهها ذلك العالم وبصورة خاصة في مجتمعاته الأكثر تقدما في حين أن فلسفة الحركة القومية العربية قد جاءت أصلا لحلّ التناقضات المتعلقة بالعالم الثالث عموما والوطن العربي بصفة خاصة وهي تناقضات لم تعرفها المجتمعات الأوروبية ولم تدرك مضمونها وتفاصيلها وحقائقها بعض الحركات السياسية والمدارس الفكرية ذات النظرة الجزئية والحلول الجزئية لقضايا الأمة العربية في المرحلة الراهنة .