كعادته لم يتخلّف بن لادن -زعيم تنظيم القاعدة- عن الظهور في الصورة
كلما جدّ جديد على أمريكا، وكالعادة كان ذلك عبر قناة الجزيرة، وقبل ساعات
قليلة من زيارة الرئيس الأمريكي لمصر لإلقاء خطاب إلى العالم الإسلامي.
بن لادن في تسجيله الصوتي الجديد -الذي يعود من خلاله بعد غياب طويل-
هاجم الرئيس الأمريكي أوباما واتهمه بأنه يسير على درب الرئيس السابق جورج
بوش، وأنه ونظيره الباكستاني آصف علي زرداري قاما بتدبير الحملة العسكرية
التي تخوضها القوات الباكستانية ضد مقاتلي طالبان بوادي سوات، وذلك من أجل
منعهم من "تطبيق الشريعة بالقتل والقتال" -على حد تعبيره.
وربط بن لادن في هذا التسجيل بين ما يحدث في باكستان حاليا وبين ما حدث
للأمريكيين في 11 سبتمبر قائلاً: "الأحرار الذين قاموا بأحداث الحادي عشر
لم يذوقوا مرارة القهر والطرد من بيوتهم وأراضيهم لتؤويهم الخيام ويتكففون
الطعام, وإنما أولئك التسعة عشر سمعوا أن ذلك الضيم قد وقع على إخوانهم في
فلسطين بأسلحة أمريكية وبأيدٍ صهيونية". محذراً الشعب الأمريكي من تكرار
الهجوم عليهم داخل أراضيهم لكون هو وحده -أي الشعب- الذي يجني ما زرعه
قادة البيت الأبيض وزعماؤه طول السنين الماضية، وهي صياغة تهديد غير
خافية، لكنها متكررة وسبق أن استخدمها بن لادن ونائبه أيمن الظواهري من
قبل، وإن ظل بقاء الولايات المتحدة في مأمن من أي هجوم "إرهابي" حتى الآن
يوضح أن الأمر لم يعد سهلاً كما سبق.
رسالة بن لادن أثارت كما هو متوقع الكثير من الجدل، أولها تعلق
بمضمونها؛ لأن كثيرين يعتقدون بأن أوباما يختلف تماماً عن سلفه جورج بوش،
فهو حتى الآن لم يتخذ قراراً بشن الحرب على أي دولة عربية أو إسلامية، كما
أن ما يفعله في سوات بباكستان رغم دمويته متعلّق بتورطه بالأساس في الحرب
هناك، استناداً لما فعله جورج بوش، مع صعوبة الانسحاب بشكل مفاجئ من هناك،
إلى جانب أن أوباما مدّ يده للعالم الإسلامي ويتعامل معه بود وبنفس
منفتحة، وهو أسلوب -وإن لم يأتِ حتى الآن بأي نتائج إيجابية- يختلف كلية
عن نهج جورج بوش الذي وصف ذات يوم الحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان
ودول إسلامية أخرى بأنها "حرب صليبية".
لكن الجدل لم يقف هذه المرة عند فحوى رسالة زعيم تنظيم القاعدة فحسب،
وإنما طال أيضا التشكيك في صحة الرسالة، وفي أن يكون الصوت الذي يصاحبها
هو صوت بن لادن نفسه، خاصة وأن الإدارة الأمريكية تجاهلت التعليق على
الرسالة مثلما يحدث عادة.
ورصد بعض المراقبين تغيّراً لافتاً في نبرة صوت بن لادن في رسالته
الأخيرة، وتغيراً ملحوظاً في طريقة نطقه للحروف، والفواصل التي يأخذها بين
الكلمة والأخرى وهي السمات التي كانت تلاحقه في كل التسجيلات التي ذيلت
باسمه منذ أحداث 11 سبتمبر، وكان يظهر فيه أثار وهن وتعب من المرض
والملاحقة الأمنية على حد سواء.
غير أن بث الرسالة عبر قناة الجزيرة -وهي التي تعد بمثابة المذيع
الرسمي لتنظيم القاعدة- شكّل نقطة ضعف في تلك النظرية التي تقول بأن
الرسالة المنسوبة لابن لادن ليست له، وإنما لشخص آخر يقلّده في محاولة
لإبقاء القاعدة في المشهد، وأصحاب ذلك الرأي يعتقدون بأن الجزيرة لديها من
الإمكانات التقنية والفنية ما يمكنها من التأكد من صحة الرسالة قبل
إذاعتها، لكن يبقى أن إذاعة رسالة بن لادن بعد يوم واحد فقط من رسالة
مشابهة للرجل الثاني في تنظيم القاعدة "أيمن الظواهري" حملت نفس المعنى
فتح الأذهان من جديد حول صحة رسالة بن لادن، وحول حالته الصحية هو شخصياً،
وعما إذا كان لايزال على قيد الحياة حقاً أم إن مريديه يصرّون على استمرار
بقائه في الصورة بينما هو لا يعيش في هذه الدنيا؟!
ومثلما كان خطاب أوباما لا يحمل مفاجآت غير متوقعة للعالم الإسلامي،
فإن تسجيل بن لادن لم تكن فيه أي مفاجأة.. فالرجل عبر عدة فصول سابقة من
نفس الدراما يُعيد إنتاج نفسه بصور تكاد تكون كربونية، إلا أن كل صورة
جديد "أبهت" من سابقتها.
ويترافق ذلك مع أو لعله يكون السبب
وراء تراجع الأثر الذي تحدثه هذه الفرقعات الصوتية في نفوس سامعيه، بعد أن
باتت صورة أسد الإسلام الذي كان يحلو في السابق لكثيرين -وبعد فترة
للقليلين- خلعها على بن لادن أقرب إلى الشبح أو خيال المآتة الذي يدور حول
نفسه ضارباً الهواء بذراعيه المهدودتين فلا يشق بهما إلا الرياح أو سكون
الليل.