إيران إذا اعتدلت – فهمي هويدي –المقال الاسبوعي
ربما
كان من الصعب التنبؤ بما يمكن أن يسفر عنه الموقف في إيران، رغم مضي عشرة
أيام على الانتخابات الرئاسية التي جعلت طهران محط أنظار العالم بأسره.
لكننا نستطيع أن نسجل ملاحظات على المشهد في جملته، حتى الآن على الأقل.
*
الملاحظة الأولى، أننا بصدد لحظة فارقة في مسيرة الثورة الإسلامية. إذ من
الواضح أن حجم الاحتجاج والغضب في المدن الكبرى بوجه أخص، أكبر مما بدا
سواء قبل التصويت أو بعده مباشرة. وكانت المؤشرات الأولى توحي بأن الفقراء
وسكان الأقاليم صوتوا لأحمدي نجاد، وأن نسبة معتبرة من الأغنياء والمثقفين
والشباب والنساء من سكان المدن الكبرى صوتت لصالح مير حسين موسوي. لكن ما
حدث بعد ذلك بيَّن أن ثمة انقساماً في المجتمع، تجاوز الحدود الطبقية.
ووصل بدرجة أو أخرى إلى محيط رجال الدين أنفسهم. وفيما فهمت من بعض
المطلعين في طهران فإن الأزمة مرشحة للتصاعد، وأنه بعد الخطاب الذي ألقاه
آية الله علي خامنئي يوم الجمعة الماضي، وأعلن فيه قبوله بالنتائج المعلنة
ورفضه التشكيك فيها، فإن الإصلاحيين اعتبروه طرفاً في المشكلة وليس
حَكماً. ومن ثم فإنهم شددوا الحملة ضده، بحيث أصبح هو المستهدف (في
صلاحياته على الأقل) وليس أحمدي نجاد. وليس معروفاً المدى الذي يمكن أن
تصل إليه تداعيات هذه المواجهة، ويرجح المطَّلعون أن الأمر سوف يحسم مع
نهاية هذا الأسبوع، على الأقل في حدود إعادة التماسك بين القيادات
الدينية، خصوصاً بعدما امتدح خامنئي رفسنجاني في خطبة الجمعة، في ما بدا
أنه استرضاء له، بعدما اتهمه أحمدي نجاد علناً بالضلوع في الفساد هو
وأولاده.
*
الملاحظة الثانية، أن ما يقال عن تزوير الانتخابات هناك يظل وجهة نظر
الطرف الخاسر، وهو ما يحتاج إلى إثبات من قبل جهة محايدة. وإذا ما ثبت
فإنه يجرِّح القيمة الأخلاقية للنظام الإيراني لا ريب. مع ذلك فلا مفر من
الاعتراف بأن موقف المجتمع هناك من دعاوى التزوير أفضل كثيراً من نظيره في
العالم العربي. فقد خرجت الشرائح المعارضة إلى الشارع، وظلت طوال الأيام
العشرة الماضية تواصل تحديها ورفضها واشتباكها مع الشرطة. في حين أن
التزوير في أقطارنا العربية أصبح قاعدة في أي انتخابات محلية أو نيابية
ولا تسأل عن الرئاسية. وثمة أحكام قضائية أثبتت التزوير في بعض الأقطار،
ومع ذلك فإن المجتمع ابتلعها وسكت عليها، وتعامل معها بدرجة مدهشة من
“التسامح” وغض الطرف.
*
الملاحظة الثالثة، أننا شهدنا هناك انتخابات حقيقية وليست “تمثيلية”
انتخابية. لا أقارن بالانتخابات في إنجلترا مثلاً، لكنني أتحدث عن
الانتخابات التي تجرى في كل العالم العربي، نعم هي في إيران منقوصة في
أولى حلقاتها، التي يتولى فيها مجلس صيانة الدستور إجازة مرشحين وحجب
آخرين. لكنها في المراحل التالية تتسم بالجدية والنزاهة النسبية. فقد
تنافس المرشحون بضراوة مشهودة، وظلت السلطة محايدة بين الجميع طول الوقت.
إذ قام التلفزيون بعرض مسيرة كل منهم في أفلام وثائقية على الناخبين، ونقل
على الهواء المناظرات التي جرت بينهم. وهو ما وضع الرأي العام الإيراني في
الصورة بشكل متوازن وجيد قبل التصويت.
*
الملاحظة الرابعة، تتعلق بالموقف العربي من الحدث الإيراني. ذلك بأن من
يتابع بعض الصحف والفضائيات العربية يفاجأ بأنها تبنت موقفاً يتراوح بين
الشماتة والتحريض على النظام الإيراني. ولا أعرف مدى صحة ما يقال عن تدخل
مخابرات دول عربية وسعيها إلى تأجيج المشاعر ضد حكومة طهران.
*
الملاحظة الخامسة، متفرعة عن السابقة، ذلك أن انتقاد الإعلام العربي للوضع
الراهن في إيران ردد كلام الإصلاحيين عن الأوضاع الداخلية، والعرب ليسوا
طرفاً فيها. أما السياسة الخارجية التي تهمهم أكثر، فلم يعتن العرب بالخوض
فيها، رغم أنه إذا كان للعرب مشكلات مع إيران فليس السبب في ذلك هو التضخم
هناك أو انتشار الفساد المالي في بعض القطاعات، وإنما مصدر المشكلات
المفترضة يكمن في سياسة إيران الخارجية. ومن المفارقات التي تثير الاهتمام
في هذا الصدد أن حفاوة الإعلام العربي بالإصلاحيين غيّبت عنهم حقيقة
مواقفهم من العرب وقضاياهم. وإذ لا يشك أحد في أن بينهم عناصر وطنية
مخلصة، إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن منهم عناصر لا يستهان بها
“متغربة” وأخرى متعصبة. الأولون من دعاة الالتحاق بالغرب والآخرون قوميون
لهم مشاعرهم غير الودية إزاء العرب.
وبهذه
المناسبة فإن الإصلاحيين في حملتهم ضد أحمدي نجاد انتقدوه في سياسته
الاقتصادية وفي تعامله مع الغرب بصورة أسهمت في عزلة إيران، خصوصا حين فتح
ملف “المحرقة” بغير مبرر وألّب دولاً عديدة على إيران بسبب ذلك. لكن الشق
المسكوت عنه أن بعض الأصوات الإصلاحية انتقدت الرجل بسبب اتهامه بأنه كان
ليِّناً أكثر مما ينبغي مع العرب.
إذ
أُخذ عليه أنه أول رئيس إيراني زار دولة الإمارات العربية المتحدة، وأنه
حضر اجتماعاً لمجلس التعاون الخليجي في الدوحة. وهو ما كان ينبغي له أن
تقدم عليه الحكومة الإيرانية التي تمثل دولة كبرى في المنطقة. (مهدي كروبي
في إحدى المناظرات التلفزيونية بينه وبين أحمدي نجاد).
هؤلاء
ليسوا معنيين كثيراً بما يقال عن “تمدد شيعي” في المنطقة العربية، لكنهم
معنيون أكثر بنفوذ الدولة الفارسية الكبيرة. وذلك التمدد الأول مقدور عليه
خصوصاً أن فرصته محدودة. أما النفوذ الذي يتحدثون عنه، فهو ما يتطلب وعياً
وحذراً.
على
صعيد آخر، فموقف “الإصلاحيين” من الصراع العربي -”الإسرائيلي” متطابق مع
ما يسمى في خطابنا المعاصر ب”الاعتدال”. بل أزعم أنه “معتدل جداً” بالنسبة
لبعضهم على الأقل. وقد أشرت في الأسبوع الماضي إلى شعار “إيران أولاً”
الذي دعا إليه المهندس مير حسين في إحدى جامعات طهران، وإلى الانتقادات
التي وجهها بعض الإصلاحيين إلى حكومة أحمدي نجاد لدعمها لحزب الله وحركة
حماس في فلسطين. وهؤلاء اعتبروا تلك المساعدات تبديداً لأموال الشعب
الإيراني، إلى غير ذلك من الإشارات التي تهدف إلى نفض اليد من المقاومة
والقضية الفلسطينية، وتأييد التسوية السياسية الراهنة. وحجتهم في ذلك
بسيطة ويمكن تسويقها بسهولة. فهم يقولون إن إيران ليست دولة عربية، وينبغي
عليها ألا تزايد على جيرانها بحيث تصبح عربية أكثر من العرب.
من
“المعتدلين جداً” من يذهب إلى أبعد، معتبراً أنه لا توجد دول متقدمة
وقومية ولها مستقبل في المنطقة سوى إيران و”إسرائيل”. ولذلك يتعين توثيق
العلاقات بينهما، لكي يصبحا قاطرة التقدم التي تخرج المنطقة من حالة
التخلف التي تعاني منها. وهناك أكثر من باحث في الشؤون الاستراتيجية
الإيرانية عبر عن هذا المعنى في أوراق نوقشت في اجتماعات المتخصصين في
الدراسات الاستراتيجية في إيران.
*
ذلك يقودنا إلى الملاحظة السادسة، إذ إن هذه الخلفية كافية في تفسير
الحفاوة الغربية غير العادية باحتجاجات ومظاهرات الإصلاحيين، والمساندة
المكشوفة لهم التي أعلنتها بعض العواصم الغربية، خصوصاً بريطانيا وفرنسا
وألمانيا، وواشنطن بدرجة مختلفة، فضلاً عن “إسرائيل” بطبيعة الحال. ذلك
أنه من حق أي مواطن أن يتريب في الإجماع غير العادي من جانب تلك الجهات
على تأييد وتشجيع الإصلاحيين، خصوصاً أننا تعلمنا أنه إذا رضي عنك خصومك
ومن لا يتمنون لك خيراً، فذلك يعني أنك وقعت في الغلط، وحدت عن طريقك
القويم.
لقد
نشرت جريدة “الشروق” في زاوية البريد (يوم 18/6) رسالة لقارئة هي إيمان
محمود قالت فيها: إن الرئيس أوباما وغيره من القادة الغربيين أعلنوا عن
تضامنهم مع المتظاهرين، وقالوا إن الإيرانيين أحرار في اختيار رئيسهم،
وتساءلت القارئة بعد ذلك عن سبب إنكار الحكومات الغربية على الفلسطينيين
أنهم مارسوا حريتهم في اختيار حكومتهم في عام ،1997 وعاقبوا الشعب
الفلسطيني بسبب ذلك الاختيار، فقاطعوا الحكومة المنتخبة وأيدوا حصار
القطاع.
هو
نفاق مكشوف أضيف إليه أن الغيورين على الديمقراطية في العواصم الغربية
أغمضوا أعينهم، وأصيبت ألسنتهم بالخرس حينما قامت أنظمة عربية حليفة لهم
بسحق المعارضين وقمع مؤيديهم، ولجأت إلى تزوير الانتخابات على ملأ من
الناس.
لقد
تحدث القادة الغربيون خصوصاً رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون بلغة
الوصاية والتهديد لإيران. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن الآلة
الإعلامية الغربية وظفت كل إمكاناتها لتحريض المتظاهرين وتأجيج نيران
الغضب في طهران، وتسويق شعارات ومدونات الغاضبين وتعميمها على مختلف أنحاء
العالم.
لقد
أعلنت محطة الإذاعة البريطانية في غمرة الأحداث أنها استخدمت قمرين
صناعيين إضافيين لتقوية إرسالها الموجه باللغة الفارسية إلى إيران. وطلب
من شركة جوجل إيرث (التي تنقل خرائط الأقمار الصناعية لمختلف أنحاء
العالم) أن تعمم على أنحاء الكرة الأرضية صور مظاهرات طهران التي تلتقطها
الأقمار الصناعية. كما طلب من محرك بحث جوجل أن يوفر على الإنترنت ترجمة
النصوص من الفارسية إلى الإنجليزية، لنقل آراء الإيرانيين الغاضبين إلى
العالم الخارجي. وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الخارجية الأمريكية وجهت
رسالة إلكترونية إلى الشبكة الاجتماعية “تويتر” أن تؤجل خطط الصيانة
المقررة لها، حتى لا تتوقف لحظة عن تمكين الإيرانيين من تبادل المعلومات
سواء فيما بينهم، أو بينهم وبين العالم الخارجي. وكان ذلك رداً على قرار
الحكومة الإيرانية وقف خدمة رسائل الهاتف النقال.
إن
الدول الغربية وهي تلجأ إلى تلك الضغوط والأساليب لا تعبر عن أي غيرة على
الديمقراطية، وليست مشغولة بهموم المواطن الإيراني، ولكنها تسعى الى تحقيق
مصالحها الاستراتيجية. ومن المذهل أن يجد المرء بعض وسائل الإعلام العربية
وقد تبنت ذات المواقف الغربية و”الإسرائيلية”، من دون أن تطرح المصالح
العربية العليا في الحسبان. وهي كارثة مضاعفة، من ناحية لأنها تعني أنه لا
توجد لدى الدول العربية استراتيجية واضحة تحدد مصالحها، ومن ناحية ثانية
لأن الإعلام العربي يسهم بطريقة غبية وغير قابلة للتصديق في تحقيق
الطموحات الغربية و”الإسرائيلية”. وهو ما يطرح بقوة أسئلة كبيرة عدة،
بعضها يتعلق بعلاقة تلك الأبواق العربية بالسياسة في العواصم المعنية.
والبعض الآخر بطبيعة الجهة أو الجهات التي توظف لصالحها تلك السياسات.
ربما كشفت أحداث طهران عن ثغرات عدة في النظام الإيراني. وفي الوقت ذاته فإنها فضحتنا حتى رأينا أنفسنا في وضع سياسي مخلٍ للغاية.
............ ..