قد يبدو السؤال صادماً ولكننا يجب أن نواجهه ونصرخ به و نتجادل حوله، فالقاهرة لا تعني لنا مجرد عاصمة. القاهرة هي المثال الكامل لمعني »المدينة - الوطن« ولن أسترسل في استعادة كل ما نعرفه جميعاً عن تاريخ تلك المدينة التي بناها القائد جوهر الصقلي مولي المعز الفاطمي وعن الدور الذي بقيت تلعبه عبر القرون التالية في أحداث وإبداعات ومعارك هذه المنطقة من العالم.
لم تكف القاهرة يوماً عن أن تكون ملء السمع والبصر ترنو إليها عيون الجميع حتي في أزمنة انكسارها ولم تتخل يوماً عن قبول كل ما وجه لها من تحديات وكل ما حاق بها من أخطار وقد قيل في بعض أدبيات التاريخ التي تتحدث عن قصة بناء العاصمة المعزية روايات كثيرة لعل أشهرها ان الذي اختار مكان البناء عند سفوح المقطم هو بعض معاوني الوزير بدر الجمالي وقد اختاروها لحسابات تتبع علوم تلك الفترة وكانت عادة تهتم بمصادر هبوب الرياح والتحكم في المواقع المتوسطة سياسياً وقيل في تلك الرواية إنه بعد ان تم البناء كان المنجمون المغاربة يرصدون حركة الكواكب والأجرام السماوية ليختاروا وفقاً لها اسماً يروق للخليفة ويلائم عاصمة ملكه الجديد، فكان أن مر في الأفق كوكب المريخ وكان يسمي لديهم بالقاهرة وبالتالي لم يجدوا اسماً أفضل فكانت القاهرة، والقصد من وراء استعادة هذه الحكاية ليس إلا نوعاً من الإشارة إلي ما حمله الاسم من أبعاد وإيحاءات تثير دائماً الإحساس بطموح الغلبة والانتصار فتصبح القاهرة في نفوس أهلها جميعاً وفي قلوب المصريين كافة »بشارة دائمة بقدرتها علي قهر أعدائها، وحملت المدينة إلي جانب هذا كله إرثاً لا ينقطع من محاولات المصريين الدائبة لصنع التقدم والجمال وتشربت جدرانها وشوارعها وحدائقها وكل مسالك ودروب الحياة البشرية معجونة بخبرات ذلك البناء العظيم الذي امتدت جيناته في أصلاب بنيه وأحفاده لتصنع كل معجزات الجمال التي بقيت في كل أحياء القاهرة القديمة.
الفاطمية والمملوكية والأيوبية ولتصبح هي درة التاج التي تبهر العيون وتأخذ بالألباب وتغطي القاهرة وجهها الفاتن الخلاب ذلك الوجه الذي ظل مشرقاً علي مر العصور الي ان أصابته الكارثة وهاجمه الوباء، نعم أصاب الوباء درتنا اليتيمة وتحولت غارتنا الهيفاء ومعشوقتنا الخالدة في خلال سنوات ذلك الوباء إلي تلك العجوز الشمطاء المتداعية التي توشك علي مفارقة الحياة.
منذ سنوات طويلة وأزمات القاهرة تتفاقم وأوجاعها تتراكم وتشوهاتها تثبت كل يوم أنها مدينة يحكمها الوباء. وسأختار أفظع تلك الأخطار لأتحدث فيه اليوم وهو خطر تنفجر فيه المدينة علي نفسها فتتشظي إلي أشلاء يعطونها لقب الأحياء وتخفي تحت كيانها المترهل المتفسخ مدينة كاملة أخري يسكنها الأحياء الأموات وتختنق شوارعها بعد وان يومي يرتكبه أبناؤها أنفسهم فأصبحت كما تبدو لأي عين منصفة مدينة منتهية الصلاحية
expired تترنح تحت ضربات تأتيها من كل صوب يخنقها التلوث والغبار وضجيج ملايين العجلات التي اكتظت بها الشوارع وتحولت إلي مصايد لقتل الوقت والأعصاب واختفي تعبير أوقات الذروة بعد أن أصبح اليوم بأكمله وقت ذروة وتفشت كنتيجة منطقية للوباء كل أمراض المدن المنهارة! عشوائيات تمتلئ ببؤر الفقر والجريمة ومقابر تضيق بسكانها الأحياء للتحول إلي أوكار أخري للانحراف والمباذل الأخلاقية وتنتشر في كل مكان مع هذا كله ناطحات سحاب شاهقة وبنايات علي أحدث النظم المعمارية وتبدو اللوحة للناظر إليها من بعيد كأنها جدارية سيريالية رسمها فنان رديء فلا تناسق ولا انسجام ولا أي التزام بحس التذوق الفني.
وقد انعقدت آراء كل خبراء الهندسة الإيكولوجية والتنسيق الحضاري ومعالجة مشاكل المدن الكبري - انعقدت كلها علي أنه لا خلاص للقاهرة ولا منقذ لها من المصير المحزن إلا بالإفراج عنها وإنهاء احتلال مؤسسات وشركات ووزارات ومصانع السلطة المركزية ونقلها إلي مدينة أخري جديدة تبني لتكون عاصمة إدارية بديلة، وقد شعرت بفرح غامر يتملكني يوم قرأت التصريح الذي أدلي به الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء المصري وأعلن فيه أن خطة الحكومة ونواياها تعتزم توفير الاعتمادات اللازمة لإنشاء عاصمة جديدة لمصر، فها هو رئيس وزراء مصر شخصياً »وما أدراك من هو رئيس الوزراء المصري« يتصدي بشجاعة لاقتحام أهم مشكلة تواجه عاصمته وعلي قدر ما أسعدتني تصريحات الدكتور نظيف فاجأتني - كما فاجأت المصريين جميعا تصريحات مضادة أعلن فيها فخامة الرئيس مبارك أنه لا تفكير حالياً في توجيه أي استثمارات لبناء عاصمة جديدة، لان الأولوية تنعقد كما قال سيادته لتحقيق العدالة الاجتماعية ومن يفقهون شيئا في آليات السياسة المصرية سيشعرون بالتأكيد ان وراء تصريحات الرئيس مبارك المضادة والنافية لتصريحات رئيس وزرائه عملية تجاذب ولا أقول صراعا بين مراكز قوي أو أجنحة متصارعة في كواليس أصحاب القرار ولسوء حظ القاهرة أن يزج بمشروعات إنقاذها في هذا الإطار فلا أي تعارض ولا أي صلة بين قضية عامة تتحدث عن العدالة الاجتماعية وبين خطة تفصيلية لانقاذ مدينة بل ربما كانت عملية إنشاء العاصم الجديدة نوعاً من الإصلاح الاجتماعي ومداواة الأمراض التي رزئت بها القاهرة الشهيدة.
أما إذا كانت القضية في جوهرها هي العجز عن توفير الاستثمارات المطلوبة لبناء العاصمة الجديدة فهناك اقتراح محدد أطرحه في هذا الصدد وهو تنظيم حملة عالمية لانقاذ مدينة القاهرة وحماية ما تحتويه من من تراث إنساني مهدد بالضياع مع استمرار الوباء وهي مهمة تستحق أن يشارك فيها العالم كله.
تحت عنوان »انقذوا القاهرة« .. تماماً مثلما أطلقنا عبر اليونسكو
من ثلاثين عاماً عنوانا آخر هو »انقذوا أبو سمبل
ما الذي يمنع أن نكرر الحملة؟
ألا تستحق القاهرة أن نستصرخ من أجلها العالم كله؟
بلي إنها تستحق وتستحق ولو اتهمنا بأننا شعب من العجزة لا يستطيع منع عاصمته من الانتحار.