هل المواطنة لابد أن تكون علمانية؟.. وهل تحققها يستلزم التخلي عن المرجعية الاسلامية في القانون والتشريع؟
إن المواطنة: مفاعلة أي تفاعل بين الإنسان المواطن وبين الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه.. وهي علاقة تفاعل، لأنها ترتب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات.. فلابد لقيام المواطنة أن يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن، يحترم هويته ويؤمن بها وينتمي إليها ويدافع عنها، بكل مافي عناصر هذه الهوية من ثوابت اللغة والتاريخ والقيم والآداب العامة، والأرض التي تمثل وعاء الهوية والمواطنين.. وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من أعداء هذا الوطن طالما استمر هذا العداء.
وكما ان للوطن هذه الحقوق التي هي واجبات وفرائض علي المواطن، فإن لهذا المواطن علي وطنه ومجتمعه وشعبه وأمته حقوقا كذلك، من أهمها: المساواة في تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب اللون او الطبقة أو الاعتقاد، مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعل الأمة جسدا واحدا والشعب كيانا مترابطا، إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر أعضاء الجسد الواحد بالتكافل والتضامن والتساند والانقاذ..
وإذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بسبب التمييز علي أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت وعلي أساس العرق بسبب الحروب القومية وعلي اساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء وعلي أساس اللون في التمييز ضد الملونين.. فإن المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات قد اقترنت بظهور الإسلام، وتأسيس الدولة الاسلامية الأولي في المدينة المنورة سنة 1 ه سنة 622 م علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وتحت قيادته..
فالإنسان في الرؤية الإسلامية هو مطلق الانسان.. والتكريم الإلهي هو لجميع بني آدم (ولقد كرمنا بني آدم) الاسراء: 70 والخطاب القرآني موجه أساسا إلي عموم الناس.. ومعايير التفاضل بين الناس هي 'التقوي' المفتوحة أبوابها أمام الجميع إن اكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13 .. بل لقد جعل الاسلام 'الآخر الديني' جزءا من 'الذات' وذلك عندما أعلن أن دين الله علي امتداد تاريخ النبوات والرسالات هو دين واحد، وأن التنوع في الشرائع الدينية بين أمم الرسالات إنما هو تنوع في إطار وحدة هذا الدين (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) المائدة: 48.
ولقد وضعت الدولة الإسلامية فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الأولي لقيام هذه الدولة في السنة الأولي للهجرة.. ففي اول دستور لهذه الدولة تأسست الأمة علي التعددية الدينية، وعلي المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المتعددين في الدين والمتحدين في الأمة والمواطنة.. فنص هذا الدستور صحيفة دولة المدينة علي أن 'اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. وأن لهم النصر والأسوة مع البر من أهل هذه الصحيفة.. ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.. وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من اشتجار يخاف فساده فمرجعه الي الله والي رسول الله'.
هكذا تأسست المواطنة في ظل المرجعية الاسلامية منذ اللحظة الأولي لقيام دولة الإسلام.