في انطلاقتها السريعه والمتواصله.. اقتلعت ثوره المعلومات المفاهيم القديمه المتبعه في موسسات العمل والانتاج, ثم سرعان ما غيرت جذريا من طرق التفكير والعلاقات السائده بين البشر, مبشره بحياه جديده اكثر سهوله واقل تكلفه, ثم اشتد عنفوانها واتسع نطاق تاثيرها ليعصف بمجالات ومناحي حياتيه لم يطرا علي ذهن احد انها ستكون يوما ما في مرمي تاثيرات هذه الثوره المتواصله, لكن في غمره الاندهاش الشديد بمنجزات هذه الثوره والانغماس العميق في ادواتها والياتها والنهم المتواصل للفوز بثمارها فاننا قليلا ما نتوقف لنتساءل: اليس لهذه الثوره من ثمن يدفع ؟ او وجه اخر غير مرئي مسكوت عنه؟.. بعباره اخري: اليس لها سلبيات يتعين الالتفات اليها لتجنبها او الحد منها؟
نحن نلاحظ جميعا ان الحياه اتخذت شكلا مختلفا وزاد الاعتماد علي منجزات ثوره المعلومات, حتي اننا اذا ما اردنا الاستغناء عنها او عن البعض من ادواتها الان فلن نعرف ما سنفعله, فالبشريه تورطت الي حد بعيد في الحياه الرقميه او الالكترونيه المعتمده بالكامل علي تحويل المعلومات المتدفقه حول الانسان من المرحله الشفهيه والمرحله المكتوبه علي الورق, الي شكل الكتروني يتحرك عبر شبكات المعلومات, فظهرت المعاملات الكترونيه بين الموظفين داخل الشركه والمنشات وبين منشاه واخري وبين مجموعه منشات وبعضها البعض فيما يعرف بالاعمال الالكترونيه, وبين الطلاب والمدرسين عبر المنازل والبيوت والجامعات فيما يعرف بالتعليم الالكتروني, وبين الاطباء والمرضي عبر عيادات ومنازل ومستشفيات في اماكن متباعده قد يفصل بينها الاف الكيلومترات عبر الطب الالكتروني, وبين مواطنين واجهزه الدوله التي يعيشون فيها كهيئه للاحوال المدنيه او اداره محليه او مصلحه ضرائب او غيرها ليدفع مثلا فاتوره كهرباء او مياه او يحصل علي تذكره قطار او ينهي اجراءات معاش او يدلي بصوت في الانتخابات فيما يعرف بالحكومه الالكترونيه والديمقراطيه الرقميه, وايضا بين جهات قائمه بالا
تصال وجمهور متلقي فيما يعرف بالاعلام الالكتروني او الصحافه الالكترونيه.
باختصار اصبح الانسان يحيي حياه قائمه علي تبادل المعلومات بسرعه وبكميات ضخمه وبشكل مستمر فيما بين كل شيء, الناس وبعضهم البعض, والالات وبعضها البعض, وكذلك بين الناس والالات, فهناك الان بيوت تتحدث للحاسبات ومجلات تتحدث للتليفونات اللاسلكيه وسيارات تتحدث للانترنت, وثلاجه تطلب الخضر ومواد البقاله من السوبر ماركت دون انتظار امر صاحبها, الي غير ذلك من الاشياء التي افرزت انماطا جديده من الحياه, واشكالا جديده للعمل واجيالا متنوعه من الخدمات, وايضا ممارسات وظواهر سياسيه واساليب في الحكم لم تكن مالوفه من قبل.
والحاصل مع هذه الثوره بملامحها واثارها المختلفه ان غالبيه الناس طغي لديها الاندهاش والاعجاب علي فضيله التامل في ابعاد هذه الثوره واثاراها بحثا عن وجهها الاخر, واستطيع القول ان ملمح الاندهاش والاعجاب شائع بالفعل لدي قطاع عريض من صانعي ومستخدمي ومستهلكي هذه الثوره, ومع ذلك فهناك فئه من مراقبي هذه الثوره ودارسيها ومحلليها وصانعيها من العلماء والمفكرين الذين لا يجرفهم الاندهاش ولا يستهويهم التوحد مع الانغماس ولا يلهيهم نهم قطف الثمار, لكونهم يقبضون بعقولهم دائما علي دفه ادائهم فيتناولون الامور من مختلف جوانبها, المسكوت عنها والمعلن, ومن ابرز ما توصل اليه هولاء بشان الوجه الاخر لثوره المعلومات ما يلي:
علي مستوي العلاقه بين المجتمعات الانسانيه والشرائح الاجتماعيه وبعضها البعض فان التزايد المعرفي والمعلوماتي لم تصاحبه مساواه اجتماعيه ومعرفيه سواء داخل الدوله الواحده او بين الدول, بل كان مصحوبا بفجوه معرفيه سواء بين الدول المتقدمه والناميه علي مستوي العالم او بين الشرائح الاكثر غني وتعليما وتقدما والفئات الاكثر فقرا وجهلا داخل الدوله او المجتمع الواحد, والبعض يصنف هذا الامر عن انه نوع من العزل العنصري المعلوماتي او الابرتهايد الذي يسيء اخلاقيا وادبيا وحضاريا الي مستهلكي هذه الثوره ويحولهم الي مجتمعات مهمشه عاجزه فاقده للفعل عليها ان تظل دوما مجالا قابلا للاستغلال ومص الثروات من قبل صانعي هذه الثورات.
علي مستوي البشر الافراد يوخذ علي هذه الثوره انها لم تود الي تحقيق نوعيه جيده من الحياه للبشر, فهي تسرع من خطي الحياه بشكل يجعل المرء يلهث وراءها من دون جدوي حقيقيه كما قلصت من الوقت المتوافر لهم لكي يستمتعوا بها ويتفقهوا في كنهها.
ان تمدد هذه الثوره وتشعبها وتغلغلها في مسارات ومستويات شتي وتعمقها في حياه الناس كان مصحوبا بمستويات غير مسبوقه من افعال وممارسات هتك الخصوصيه للافراد والاسر والجماعات, فالانسان الفرد يعاني في ظل ثوره المعلومات من انكشاف معلوماتي لان بياناته كامله تتداول بصوره متكرره وطوال الوقت فيما بين قواعد معلومات بنكيه وقواعد بيانات حكوميه وقواعد بيانات امنيه وقواعد بيانات صحيه وقواعد بيانات تجاريه وغيرها, وهذا الانكشاف الاجتماعي الصحي الامني الشخصي جعله عرضه لمخاطر لم تكن في حسبانه من قبل, فتحركاته مرصوده او علي الاقل قابله للرصد, وافعاله محسوبه او علي الاقل قابله للمراقبه والحساب, والامر في هذه النقطه لم يتوقف عند هتك خصوصيه الفرد بل تعدي ذلك الي غزو ثقافه المجتمعات وتهديد ذاتيتها وهويتها.
ان ثوره المعلومات قد تحمل في طياتها مخاطر حقيقيه علي الديمقراطيه كنمط حياه يسعي العالم الي نشره بين الشعب الواحد وفي اسلوب التعامل بين الدول, واصحاب هذا الراي يرون ان الثوره المعلوماتيه العنيفه صدمت جميع المجالات, وتعمل علي تغييرها من الجذور, فهي تعمل علي لملمه شتات قطاعات ومكونات كثيره مبعثره في مركز واحد رئيسي له مراكز فرعيه ترتبط جميعها بنظم مركزيه صارمه تتيح للمركز الرئيسي التحكم بشده في جميع تفاصيل الافرع الاخري وجعلها مجرد تروس صغيره في اله ضخمه لا تستطيع الحركه بحريه تامه, ويحدث هذا الان بشكل متسارع علي مستوي الشركات والهيئات والقطاعات والوزارات ويتصاعد ليصيب نظم الحكم نفسها ليجعل جوهرها هو الاستبداد عبر التحكم الصارم في المعلومات التفصيليه لكل شيء.
ان ثوره المعلومات الحقت تدميرا فادحا بموارد البيئه الطبيعيه, لعل اقلها ما تحدثه صناعه الحاسبات من ملوثات, كما انه علي النقيض من القول بان الالكترونيات سوف تقلل من الورق, فان الطلب علي الورق يزداد, وقد نشرنا في المجله اكثر من مره تقارير مطوله عن الخطر البيئي الكبير لمخلفات صناعه تكنولوجيا المعلومات وكيف انها اصبحت مشكله عالميه نشات حولها مافيا تخصصت في الاتجار بالاجهزه والمكونات القديمه والخرده وتهريبها من البلدان الصناعيه الناميه تحت مسميات مختلفه.
جلبت ثوره المعلومات مخاطر جديده وعميقه علي الامن القومي للدول والمجتمعات, وذلك نتيجه حدوث تقارب بين المعلومات والامن القومي حتي اصبحا علي درجه غير مسبوقه من التوحد والاندماج, الامر الذي جعل من المستحيل علي اي مجتمع حمايه امنه القومي بمعناه الشامل دون القدره علي امتلاك ادوات امن معلومات ذات قيمه عاليه, ومن هنا ظهرت الحروب عبر شبكات المعلومات والحروب الالكترونيه وغيرها من الاخطار التي لم تكن معروفه قبل هذه الثوره.
مع ثوره المعلومات ظهرت الجريمه الالكترونيه وجرائم المعلومات وتصاعدت بشكل خطير وباتت تمثل هما يورق العالم اجمع, سواء في مجالات السطو علي الملكيه الفكريه او الجرائم المعلوماتيه ذات الابعاد الجنائيه البحته من سرقه وسطو ونصب واحتيال وخداع وتجسس وممارسات لا اخلاقيه واخيرا الارهاب المعتمد علي منجزات ثوره المعلومات.
من الجوانب السلبيه المهمه لهذه الثوره انها احدثت حاله من التخمه المعرفيه او المعلومات الزائده التي تحولت في كثير من الاحيان الي فيضان الذي يغرق العقول بمعلومات غثه بدلا من ان يروها بمعلومات مصفاه ذات قيمه, ويشتت الروي بدلا من ان يركزها ويوجهها, ويسطح الافكار والممارسات بدلا من ان يعمقها وينضجها, ويظهر هذا التاثير السلبي كاشد ما يكون لدي الفئات الاقل وعيا وتعليما ونضجا والمجتمعات الاكثر جهلا, فهولاء يندفعون بشكل اهوج الي مقالب قمامه المعلومات ويعبون منها قدر استطاعتهم, فتتكون بادمغتهم كروش من البيانات الغثه التي توردهم موارد التهلكه والضياع ونشاه ثقافه قائمه علي تدني الحاسه النقديه والتحليليه والمعارضه والميل الي التوفيقيه.
هذا بعض مما يقال عن الوجه الاخر لثوره المعلومات وهناك غيره الكثير سواء فيما يتعلق بالافراد او الجماعات او الدول او المجتمع البشري باسره, وانا هنا لا اعرضه بغرض التخويف او هز الثقه بهذه الثوره ومنجزاتها, ولكن من باب ان لكل شيء وجهه الاخر الذي يتعين الا نغفله او نتغاضي عنه, بل لابد من الاقتراب منه وفهمه حتي نعي مخاطره ونحاول تجنبه او علي الاقل التخفيف من وطاتها, حتي لو كان هذا الشيء هو ثوره المعلومات التي ندعو للاخذ بها ليل نهار.
موضوع: الوجه الاخر لثوره المعلومات 
الجمعة 28 ديسمبر - 15:17
