أزهى عصور المولوتوف
بقلم بلال فضل ٥/ ٢/ ٢٠١١
أمر مثير للقرف والاشمئزاز ذلك التواطؤ الإعلامى السافر (بالراء واللام معا) الذى يمارسه فريق الخلايا الأمنية النائمة فى العديد من وسائل الإعلام المشمومة، والذين يستميتون فى تسويق وهم أن الذين يتظاهرون فى ميدان التحرير من أجل حرية المصريين وكرامتهم هم أعضاء فى تحالف شيطانى إخوانى إيرانى قطرى إسرائيلى أمريكى حماسى، ولم يعد ينقص سوى اتهام كوريا الشمالية لكى تكتمل أضلاع محور الشر. فى الماضى كنا نناشد أمثال هؤلاء أن يراجعوا ضمائرهم، لكن الأيام الأخيرة كشفت عن خطلنا وهطلنا لأننا تصورنا أنهم يمتلكون ضمائر أو معايير مهنية أو حتى ذكاء سياسيا يخدمون به أسيادهم ببراعة، ولذلك لا أنشر الشهادة التالية من أجلهم، بل من أجل الطيبين أو اليائسين أو الزهقانين الذين تأثروا بحملات التحريض التى كان هؤلاء الإعلاميون يمارسونها أغلب ساعات اليوم قبل أن يتركوا مواقعهم لميليشيات القنص والبلطجة لكى تطلق الرصاص على العزل أثناء نوم الذين تأثروا بتلك الحملات الملعونة، ثم يصحو أولئك الإعلاميون والصحفيون فى الصباح لكى يشتموا الذين كانوا يتعرضون للقنص والاستهداف طيلة الليل لأنهم يرفضون دعوات الحوار.
الشهادة كتبها من قلب ميدان التحرير الدكتور نبيل بهجت، أستاذ المسرح بجامعة حلوان، والكاتب والمخرج المسرحى ومؤسس فرقة ومضة، كما أنه الذى قام بجمع الأعمال الكاملة لشاعر الشعب بديع خيرى، والشاعر المصرى العظيم يونس القاضى، ويقوم حاليا بجمع الأعمال الكاملة لبيرم التونسى، هذا إذا كتب الله له النجاة من المذابح التى ترتكب كل يوم ويقوم الإعلام بالتعتيم عليها، وبرغم كل ما يمارسه الدكتور نبيل من أنشطة فنية وثقافية رفيعة فإنه فى لحظة الحقيقة انحاز إلى شعبه وأدرك أن الوجود فى ميدان التحرير دفاعا عن مطالب الشعب المصرى العادلة هو جوهر الثقافة والفن معا، وأن المثقف التنويرى ليس هو الذى يقبل أن يكون صاحب منصب يصعد به على جثث الشهداء كما فعل الدكتور جابر عصفور، بل المثقف التنويرى من ينشر البهجة فى قلب الخوف، ويقاوم الهمجية بالفن.
يقول الدكتور نبيل بهجت فى شهادته الخطيرة التى نتمنى أن نضمها قريبا إلى وقائع التحقيق فى المحكمة الجنائية الدولية: ما حدث يوم الخميس الثانى من فبراير عام ٢٠١١ ضد المصريين المتظاهرين سلميا فى ميدان التحرير وسط القاهرة هو جريمة بشعة استندت إلى مخطط شيطانى نقدم لكم هنا توثيقا لها. فى مساء الثلاثاء توقع البعض أن ينخفض عدد المتظاهرين فى الميدان نسبيا بعد مسيرة المليون التى وصل تعدادها إلى ما يزيد على الخمسة ملايين تقريبا، وبالفعل جاء الأربعاء لينخفض العدد ونفاجأ عند الصباح ببعض الأشخاص يقفون عند بوابات الدخول يهتفون لمبارك ولقد شعرت بالأسى عندما تأملت وجوه مؤيديه وأشكالهم، وأدركت كيف سكب الماء على جبل من الرمل يدعى تاريخه عندما استعان بهولاء المأجورين لكى يمثلوه، مر اليوم وبدأنا نسمع فى الثانية عن أنباء تجمع لبضع مئات عند ميدان عبدالمنعم رياض،
كنا فى البداية نظنهم جاؤوا للتظاهر والتشويش، ولكنهم بدأوا الاحتكاك بنا بالسباب، وتلا ذلك فى تمام الثانية والنصف تقريبا جلبة وأصوات قرع سياط وفوجئنا بالبلطجية فوق الخيول والجمال يحملون السنج والسياط والعصى، لتعود الهجانة التى كنا نراها فى الأفلام وهى تضرب الناس بالسياط، نالنى أحد سياطها، ولكن بعد فترة وجيزة سيطر الشباب على أحد هؤلاء وأخذوا منه حصانه فدب الخوف فى قلوب رفاقه وتراجعوا، هكذا كان المشهد الأول من الاحتكاك المباشر، احتمى الشباب بعدها ببعض العربات واضطروا لكى يصنعوا من ألواح الصاج التى كانت تستخدمها المقاولون العرب فى موقع البناء حائطا متحركا لصد هجوم بلطجية الرئيس الذين جاؤونا مؤيدين بالسنج والجنازير والسياط والأسلحة البيضاء.
بعد هذه الهجمة تراجعوا وتجمعوا ليوحدوا صفوفهم وكأنها الحرب، وتشكلت لدينا الخطة سريعا فنحن عزل ولابد لنا من دفاع عن النفس، وأوحوا إلينا بالسلاح عندما أخذوا يهاجموننا بالحجارة، إنها الحجارة، فلم يكن لنا بد لكى ندافع عن حياتنا سوى استخدام بلاط الميدان وتكسيره إلى قطع صغيرة بعد تشكيل مجموعات عمل سريعة لتكسير البلاط وأخرى لحمله ودفعه للرماة، وفريق استطلاعى يرصد تحركات مجموعات مبارك، وأخرى توزعت على المنافذ السبعة للميدان على مستويين يفصل بين كل منها قرابة ٣٠٠ متر.
كل هذا حدث فى أقل من لحظات، بدأ الشباب يتراصون فى صفوف متتالية، يحضن بعضه البعض بصدور عارية، وكأنها قصيدة الكعكة الحجرية لأمل دنقل تتشكل أمامى واقعا بيد الشباب المعتصمين. بدأ الوقت يمر علينا وزحف الظلام فكانت الفكرة الأولى استدعاء الناس إلى الميدان، لكن كيف وحظر التجول قد بدأ فرضه من الثالثة عصرا وحتى الثامنة صباحا، لم يكن لدينا خيار سوى الدعم المعنوى لبعضنا البعض فأخذنا نشيع عن وجود مظاهرات مؤيدة تزحف إلينا وبالفعل حدثت مسيرة داخلية لتقنع المرابطين بأن المدد وصل وارتفعت معنويات الناس وبدأنا فى وضع المتاريس لحماية أنفسنا منهم، فقد بدا عليهم احتراف الإجرام لما يحملونه من سنج وسيوف ومطاوى كانت فى أيديهم ساعات الهجوم وهتفنا جميعاً (...اتجنن).
كان الاشتباك الأول عند ساحة المتحف وللأسف بدأ فعلا بالإضرار بأطرافه التى تم إلقاء قنابل المولوتوف عليها، ذهبنا إلى الجيش لنناشده حماية المتحف من هؤلاء، فبدأ الجيش حماية شوارع الجامعة الأمريكية وطلعت حرب وقصر العينى بشكل ساعد المتظاهرين على تخفيف الضغط عليهم. بدأنا ننتقل من شارع إلى آخر، وشاهدت بسالة لم أر لها نظيرا، كان البعض يطرق على الحديد ليحدث أصواتا كإشارات لتجمع الشباب عند منفذ معين، وكأنهم يوقظون الموتى من جديد ينفخون فيهم الروح، يقولون ها نحن أبناؤك يا مصر جئنا إليك نجدد ملحمة، وفى الوقت الذى كنا نعانى تحت الضغط ونبتكر الحيل لدفع البلطجية عنا، بعد أن أنهكنا التعب، كان هناك مذياع يذيع أحاديث الإذاعة الرسمية البالية عن دعاة الشغب، كان الإعلام الرسمى يقول بكل وقاحة ان الموضوع يتلخص فى مجموعتين من البلطجية تتصارع على الميدان، وكان بعض المراسلين فى البرامج الفضائية يضللون الرأى العام ويزعم بعضهم أن بيننا إيرانيين وأفغان وباكستانيين، مع أنه لم يكن بيننا من أجانب إلا بعض مراسلى وكالات الأنباء الأجنبية فمن أين جاؤوا بالحديث عن تلك الوجوه، قال الكثيرون فى تلك الوسائل الإعلامية إننا إخوان فى الوقت الذى كنت أرى بعينى وسط المعتصمين مثقفين وفنانين وأساتذة جامعة أعرف مواقفهم ضد الإخوان، كل هذه الاكاذيب كانت محاولة منهم لتجييش الرأى العام العالمى ضدنا باستخدام الإسلاموفوبيا لتعطيهم أمريكا إشارة بسحقنا، وللأسف فإن برامج شهيرة وصحفاً كنا نظنها محترمة غيرت من لهجتها فى دعم ثورة الشباب، وهو ما يجعلنا نتساءل هل فعلا تم تهديد ملاك تلك القنوات والصحف بفتح ملفاتهم فحدث ما حدث من تخاذل وانحياز.
لقد وصفنا الإعلام الرسمى بالبلطجية فهل عضو المجلس الأعلى للثقافة وعضو اتحاد الكتاب وعضو نقابة المهن التمثيلية والأستاذ الجامعى والمسرحى بلطجى، والطبيب الذى كان بجوارى بلطجى والشاعر الذى لم أره منذ سنوات وتقابلنا سويا ونحن ننحنى لالتقاط الأحجار بلطجى، ومدير إحدى أهم شبكات المعلومات بلطجى، وأعضاء هيئة التدريس بلطجية، والمهندسون والأزهريون والقساوسة والمحامون والأطباء الذين جهزوا مراكز لإسعافنا بلطجية، وشباب الجامعات بلطجية. ولماذا صمتوا عن بلطجية الرئيس الذين استخدموا ضدنا أمس قنابل المولوتوف والقنابل المسيلة للدموع .. وفريق من الهجانة وأخيرا الرصاص الحى، كان بلطجية الرئيس قد كسروا أبواب العمارات المغلقة المواجهة للمتحف المصرى واستخدموها لإمطارنا بقنابل المولوتوف والحجارة، ولكننا كنا مصرين على الصمود والدفاع عن أنفسنا، وبعد فترة تمكنا من التقدم والقبض على البلطجية المتمركزين فوق العمارات وتم احتجازهم دون إيذائهم، وسيطر المتظاهرون على كل المواقع التى استولى عليها بلطجية الرئيس من أسطح المنازل، واحتجزنا منهم ما يقارب من ١٥ فرداً، وكان مثبتا فى بطاقات هويات بعضهم أنهم رجال أمن، أما الآخرون فكانوا من البلطجية معتادى الإجرام، حتى أنه كان واضحا جدا أنهم قد تناولوا مواد مخدرة أثرت على وعيهم بشهادة بعض الأطباء الذين تواجدوا بالميدان، واعترف هؤلاء بأنهم قد تم تأجيرهم من قبل بعض نواب مجلس الشعب بوجبة غذائية وبمبالغ تتفاوت بين خمسين ومائتى جنيه، وقد أخذنا بعض الدراجات البخارية لهؤلاء فاعترف بعضهم بالاستيلاء على إحدى الدراجات البخارية التى تنتمى للحرس الجمهورى وعلى عربة شرطة.
بعدها اشتدت المواجهات واستطاع المتظاهرون تطهير ميدان التحرير من أعوان مبارك من أمناء الشرطة والمرتزقة والسيطرة عليهم، وكنا إذا سيطرنا على أحدهم بعد نفاد ذخيرته تعلو الصيحات من بيننا (محدش يضربه ثورتنا ثورة سلمية سلمية)، حتى بعد أن سقط منا البعض بالرصاص الحى الآتى من فوق الكوبرى كان بعضنا يلتف حول من يقبض عليه منهم كسياج لحمايتهم من الغاضبين، ونتيجة لهذه الهجمات بالرصاص والمولوتوف وقع مئات الجرحى من المتظاهرين، ولم يعد المستشفى الميدانى الذى أقيم فى أحد المساجد القريبة كافيا لاحتواء المرضى وعشرات الأطباء المتطوعين، فقام الأطباء بإقامة مستشفى ميدانى فى قلب مكان المواجهات بجوار المتحف المصرى. وبعد ١٢ ساعة من المواجهات، فر الهاربون منهم فوقفوا على كوبرى أكتوبر بمواجهة عبدالمنعم رياض، وحوالى الساعة الثالثة صباحا دوت أصوات عدة طلقات قبل أن تصيب العزل، فهرول المتظاهرون يحملون المصابين بالأعيرة النارية فى الرأس والبطن والأقدام، وبعدها سمعنا طلقات نارية على أوقات متفرقة إحداها طلقات متتالية ربما يكون مصدرها رشاشاً آلياً، وفى تلك اللحظة توجه المتظاهرون لكتيبة الجيش التى كانت تتمركز عند المتحف ولم تبد أى استعداد للتدخل عدا إطفاء بعض الحرائق التى كانت تشعلها قنابل المولوتوف التى كان يلقيها أنصار مبارك من أسطح الأبنية ومن كوبرى أكتوبر، اتجه بعضنا إلى هذه الكتيبة وبدأوا بالتفاوض معهم ليطلقوا ولو طلقة واحدة فى الهواء، وصرخ فيهم البعض أعطونا أسلحتكم نحميكم ونحمى انفسنا، هنا تدخل الجيش بعدها وسيطر نسبيا على الموقف بعد ان أصابت طلقات مؤيدى مبارك حوالى ٢٢ فرداً سقط منهم قرابة ٦ شهداء وظلت فلول منهم تحاول إنهاكنا بالإشارات البذيئة تارة أو بقذف الحجارة وكنا نعلم أنها محاولة لإنهاكنا، فهم كما تأكدنا من هويات الذين قبضنا عليهم ليسوا سوى رجال أمنه الذين أخفاهم فجأة وعادوا إلينا فى زى مؤيديه.
لقد سطر الشباب بدمائهم يوم الخميس يوما بطوليا من بطولات هذا الشعب الذى حاول مبارك وأعوانه طمس ملامحه على مدار ٣٠ عاماً، كان الشاب يُجرح فيذهب إلى إحدى نقاط الإسعافات الأولية يداوى نفسه ويستريح دقائق يجفف دماءه ويعود بعدها للمواجهات، لم يخرج أحد منا دون جرح وكنا نسخر ونقول (من غرزة لعشرة متعتبرهوش مجروح) لم يؤثر فى نفسنا إلا قتل بعض المتظاهرين بدم بارد عندما أطلقوا الرصاص الحى على صدورهم ورؤوسهم. أخيرا استقبلنا الفجر وكأنه زائر عزيز وجاء نور الصباح ليملأنا أمل بأن المتظاهرين سيأتون إلينا وقد وفينا لهم ولمصر بوعدنا أن أعوان مبارك لن يأخذوا الميدان إلا على أجسادنا. بدأنا نراهم وكأنهم نبضات أمل تأتى إلينا يحملون معهم طعاما ودواء وكل ما نحتاجه، جاؤوا ليتسلموا مواقعنا وقد وفينا لهم بما وعدنا ونشير إلى جروحنا فى سخرية ويردد بعضنا (هذا هو مفهوم مبارك للانتقال الآمن للسلطة)، ليجىء الصباح ومعه نداء واحد (حاكموا الذين أطلقوا الرصاص على الأبرياء، ومن أمرهم بذلك، ومن سكت على ذلك).