حرمة دم المسلم
قال الله – تعالى –: {و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (الأنعلم 151)، و قال – تعالى –: {و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما} (النساء 93).
و لعظم شان الدماء كان قتل نفس واحدة كقتل أنفس، و إحياء نفس واحدة كإحياء ـنفس، قال الله – تعالى –:{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} (المائدة 32)، قال مجاهد – رحمه الله –: (و من أحياها و لم يقتل أحدا فقد حيَّ الناس منه) رواه ابن أبي شيبة (9 / 363) و ابن جرير في 'تفسيره' (10 / 11784-11785).
و بهذا المعنى فهم الآية عثمان بن عفان – رضي الله عنه –، فقد آثر أن يموت وحده يوم الدار حيت اجتمع الثوار لقتله؛حقنا لدماء المسلمين و إحياء لهم، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (دخلت على عثمان – رضي الله عنه – يوم الدار، فقلت: يا أمير المؤمنين طاب الضرب، جئت أقاتل معك، فقال: يا أبا هريرة! أيسُرُّك أن تقتل الناس جميعا و إياي معهم؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك – و الله! – لئن قتلت رجلا واحدا لكأنما قتلت الناس جميعا، قال: فرجعت و لم أقاتل) رواه سعيد بن منصور في 'سننه' (2937) و نُعيم بن حماد في 'الفتن' (437) و ابن سعد في 'الطبقات' (3 / 70) و الخطيب في 'الكفاية' (ص 183)، و هو صحيح.
قلت: هذا نفَس من نفس طيبة، جاد بدمه لحفظ غيره، مع أنه أحق الناس بالنصرة، و الانتصار لعثمان ذي النورين – رضي الله عنه – انتصار لحق محقق، مع ذلك فقد آثر أن يموت هو ليحيا غيره، فكيف عمي أهل التكفير عن هذا؟!
بلى! إنه يبصره الراسخون، و يعمى عنه الماسخون؛ لأن الله يقول: {قل هل يستوي الذي يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (الزمر 9).
أم كيف عمي عنه رجل يزعم أن له يدا على الأفغان؛ بسبب ما قدم لجهادهم من أموال، ثم لمّا دار الأمر بين أن يُسجن أو يُقتل و بين أن يُقتل الشعب الأفغاني، شحّت نفسه بما جادت به نفس ذي النورين المخلصة، حتى قُتل من أجله أمة عظيمة من هذا الشعب المسلم من قبل عدو غاشم يفرحه عناد مطلوبه؛ ليصل إلى مرغوبه؟!!
أيُعقل أن يُفدى رجل بشعب، ثم يُنسب هذا المفدّى إلى الغيرة على الإسلام و المسلمين؟!
و لئن كن بالأمس قد حمى هذا الشعب من استعمار الروس الغاصبين، فلقد قدمه اليوم لقمة سائغة لأعداء عِطاش إلىدماء المسلمين!!
إن عثمان خليفة حقا، و راشد بكل معاني الرشد صدقا، و متزوج من بيت النبوة مرتين، و من أهل الجنة بلا مَين، و مظلوم بإجماع أهل السنة، و الخارجون عليه كلاب النار بلا ريب، على الرغم من ذلك لم تطِب نفسه بأن تُفدى بغير دمه، رضي الله عن هذه النفس الطيبة المخلصة.
و كيف خفي هذا عن أصحاب الحركة الذين يرون ضرورة (حرق جيل مسلم) من أجل الدفاع عن دعاة لا عزاء فيهم؟! بل هم كما قيل:
فإن تصبك من الأيام جائحة [][][][] لا نبك منك على دنيا و لا دين
و من الأصول التي كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يحرص على تقريرها ما رواه مسلم (2564) و ابن ماجه (3933) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه و ماله و عِرضه".
و كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يجتهد في ذلك بقطع أسبابه و حسم مادته من أولها، فعن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة، و إن كان أخاه لأبيه و أمه" أخرجه مسلم (2616).
و عن أبي بكرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "إذا أشار الرجل على أخيه بالسلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله وقعا فيها جميعا" أخرجه مسلم (2888) و أبو داود الطيالسي (925) و اللفظ له، و النسائي (4127) و ابن ماجه (3965).
و معنى "جرف": شِق الوادي، أي طرفه.
و عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزَغ في يده فيقع في حفرة من النار" أخرجه البخاري (7072) و مسلم (126).
و أبْلغُ منه في حسم مادته ما أخرجه أحمد (5 / 362) و أبو داود (5004) و غيرهما بإسناد صححه الألباني في 'غاية المرام' (447)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (حدثنا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في مسير، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع، فضحك القوم، فقال: "ما يضحككم؟" فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نبل هذا ففرع، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "لا يحل لمسلم أن يروّع مسلما".
قال المناوي – رحمه الله – في 'فيض القدير' (6 / 447): [لا يحل لمسلم أن يروع مسلما و إن كان هازلا، كإشارة بسيف أو حديدة أو أفعى أو أخذ متاعه فيفزع لفقده؛ لما فيه من إدخال الأذى و الضرر عليه، و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده].
و من أخلاق المؤمن أنه إن قتل قتل بالحق، و في رفق و إحسان؛ فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – أنه قال: "أعَفّ الناس قِتْلة أهل الإيمان" رواه أحمد (1 /393) و أبو داود (2666) و ابن ماجه (2682)، و هو حسن.
قال المناوي في 'فيض القدير' (2 / 7): [أي هم أرحم الناس بخلق الله و أشدهم تحريا عن التمثيل و التشويه بالمقتول و إطالة تعذيبه؛ إجلالا لخالقهم، و امتثالا لما صدر عن صدْر النبوة من قوله: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"،بخلاف أهل الكفر و بعض أهل الفسوق، ممن لم تذق قلوبهم حلاوة الإيمان، و اكتفوا من مسماه بقلقلة اللسان، و أُشربوا القسوة، حتى أُبعدوا عن الرحمن، و أبعد القلوب من الله القلب القاسي، و من لا يَرحم لا يُرحَم].
و عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "من لقي الله لا يُشرك به شيئا، لم يتندّ بدم حرام، دخل الجنة" أخرجه أحمد (4/152) و ابن ماجه (2618)، و هو صحيح.
قال السيوطي: [لم يتندّ: أي لم يصب منه شيئا، أو لم ينله منه شيء، كأنه نال نداوة الدم]، من حاشية 'سنن ابن ماجه'.
قال أبو بكر بن العربي – رحمه الله –: [ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق و الوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح؟!]، من 'فتح الباري' لابن حجر (12 / 196).
عن جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "من استطاع منكم أن لا يحول بينه و بين الجنة – و هو يرى بابها – ملء كف من دم امرئ مسلم يقول: لا إله إلا الله، يهريقه بغير حلِّه كأنما يذبح به دجاجة، كلما تعرض لباب من أبواب الجنة حال بينه و بين المقتول ينازع قاتله إلى ربّ العالمين" رواه عبد الرزاق (10 / 26 – ببعضه) و ابن أبي عاصم في 'الديات' (ص 8) و الطبراني في 'الأوسط' (8 / 233) و في 'الكبير' (2 / 159 – ببعضه، و 160) و البيهقي في 'الشعب' (5350)، و هو صحيح.
و عند بعض هؤلاء بلفظ: عن الحسن البصري قال: (جلست إلى جندب في إمارة مصعب، فقال: إن هؤلاء القوم قد ولغوا في دمائهم و تحالفوا على الدنيا، تعلمون أني سمعت رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يقول...) فذكره.
قال ابن حجر عقِبه في 'الفتح' (13 / 130): [و هو وعيد شديد لقتل المسلم بغير حق].
فبان أن هذه الأحاديث كانت تحجزهم عن مشاركة الناس فيما يُزعم أنه إصلاح للولاة، و لو تدبرها هؤلاء الوالغون في دماء الناس باسم (الجهاد لإقامة دولة الإسلام) لما تجرؤوا على ذلك؛ إذ هؤلاء أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و هم أولى الناس بإمارة الناس، مع ذلك فقد كان من ورعهم ما رأيتَه.
و منه ما صح من رواية الإمام أحمد (5 / 367، 373، 376) و الطبراني (2 / 164) و البيهقي (8 / 191) عن أبي عمران الجني قال: (قلت لجند بن عبد الله: إني بايعت ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام، قال: لعلك تقول أفتاني جندب و أقتدي؟ قال: قلت: ما أريد ذلك، و لكني أستفتيك لتفتيني، (و في رواية إنهم يريدون أن أخرج معهم إلى الشام؟ فقال: أمسك عليك، فقلت: إنهم يأبَون)، قال: افتد بمالك، قلت: لا يُقبل مني، قال جندب: كنت على عهد رسول الله – صلى الله عليه و سلم – غلاما حَزوَّراً(1)، و إن فلانا أخبرني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: يجيء المقتول يوم القيامة بقاتله، متعلق به، فيقول: يا رب! سله فيم قتلني؟ فيقول الله عز و جل –: فيم قتلتم هذا؟ فيقول في ملك فلان، قال جندب: فاتق لا تكون ذلك الرجل!).
فانظر إلى ورع القوم و اتقائهم الدماء، على الرغم من أن ابن الزبير – رضي الله عنه – هو الذي بويع له قبل خصمه، و هو صحابي، بل هو بن حواري النبي – صلى الله عليه و سلم – و ابن عمته!
ثم انظر إلى استدلال جندب – رضي الله عنه – بهذا الحديث الخاص بالقتال من أجل ملك الغير على قتال ابن الزبير – رضي الله عنه –، و لم يقل أحد منهم: إن هذا خذلان لأهل الحق الساعين لإقامة الدولة الإسلامية؛ و إنما شأن الدماء عظيم!
فتأمل توظيفهم لهذا الحديث و ما سبق من الأحاديث في هذا المقام، مع أن جهادهم – رضي الله عنهم – هو أصدق جهاد، و دولتهم هي أنظف دولة، و أما حديثنا عن الجهاد لتحقيق دولة الإسلام فـ {إن نظن إلا ظنا و ما نحن بمستيقنين}.
عظم شأن كلمة التوحيد و الكف عن أهلها
عن أوس بن أبي أوس الثقفي – رضي الله عنه – قال: أتيت رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في وفد ثقيف، فكنا في قبة، فقام من كان فيها غيري و غير رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فجاء رجل فساره، فقال: "اذهب فاقتله"، ثم قال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟" قال: بلى! و لكنه يقولها تعوذا، فقال: رُدّه، ثم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حَرمت علي دماؤهم و أموالهم إلا بحقها" رواه أحمد (4 / 8) و النسائي (7 / 80-81) وابن ماجه (3929)، و هو صحيح.
الكف عن أهل الصلاة
عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه: أتى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و هو في مجلس، فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى – يا رسول الله! – و لا شهادة له، قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "أليس يشهدان محمدا رسول الله؟ قال: بلى – يا رسول الله! – و لا شهادة له، قال: "أليس يصلي؟" قال: بلى – يا رسول الله! – و لا صلاة له، فقال النبي – صلى الله عليه و سلم –: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" أخرجه أحمد (5 / 432 – 433) بإسناد صحيح.
قال ابن عبد البر في 'التمهيد' (10 / 153): [و في قول رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" رد لقول صاحبه القائل له: (بلى! و لا صلاة له، بلى! و لا شهادة له)؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قد أثبت له الشهادة و الصلاة، ثم أخبر أن الله نهاه عن قتلهم، يعني عن قتل من أقر ظاهرا، و صلى ظاهرا].
-----------------------------
(1) الحزوّر: إذا قارب البلوغ، كذا في 'غريب الحديث' لابن قُتَيبة (3 / 758).