أضيفت بتاريخ : 21 - 01 - 2008 من موقع طريق الاسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
ذكرتني العمارة المنهارة - أسأل الله أن يجعل من ماتوا تحت أنقاضها من الشهداء وأن يجعلها سبباً لتقوى الله في أرواح المسلمين وممتلكاتهم ممن يتولى أمور البناء - ذكرتني بمَثلٍ كنتُ أضربه لإخواني شعرتُ بمدى الحاجة الشديدة إلى فهمه والاتعاظ به:
كنت إذا وجدت الإخوة منشغلين ببعض الأعمال الدعوية الإعلامية كنحو تعليق لوحات ضخمة عن الدعوة قد تعطي الدعوة حجما أكبر من حقيقتها، وربما خدعت حتى الدعاة أنفسهم؛ أقول لهم: "إن نفخ البالون يستغرق ثوانٍ معدودة، ويتضخم الحجم بسرعة هائلة، وفي نفس الوقت بشكة إبرة أو دبوس يسهُل الأمر جداً على من أراد أن يفرقع هذا البالون ويدمره في ثانية واحدة، وأما كيس الرمل فيحتاج إلى وقت طويل في تعبئته وجهد أكبر بكثير من النفخ، ولكنه حين يطعن فيه أحد ولو بسكين وليس بإبرة أو دبوس سوف تسقط منه كمية من الرمل لكن سيظل حافظا لكيانه ويظل كيس رمل".
وكنت أقصد بذلك أن العمل البنائي في الدعوة وتكوين الشخصية السوية وإن استغرق وقتاً أطول ولم يكن بالحجم الذي يرغب فيه البعض من الإعلام والشهرة إلا أنه أثبت وأعمق أثراً وأبقى للدعوة وللمسلمين، ثم بعد أن تعرضت الدعوة لمحن تنكشف فيها حقائق الشخصيات ودخائل النفوس والموازين الصحيحة لحقيقة العمل الدعوي ظهر لي أن أكياس الرمل التي كنت أكلم الإخوة عنها لا تصلح نهائيا لأن يبنى عليها.
فمن ذا الذي يقبل أن يبني بيتاً في أرض كثيرة الزلازل على أكياس رمل؟
إنه لابد أن يبني بنائه على أعمدة خرسانية قوية، ولابد في كل عمود منها من أعواد الحديد المسلح؛ وهي التي تثبت بها الأعمدة وتصبح أعمدة خرسانية، وبدونها يتهدم البناء مع أول زلزال وربما قبله. وكذلك البناء الدعوي في مواجهة الفتن الكثيرة وقد تكالب الأعداء من الكفار والمنافقين الدعاة على أبواب جهنم على أمتنا يسعون إلى زلزلة ثوابت عقائدها وراسخ أعمالها وسلوكها، وإن كانوا قد يئسوا من هزيمة الدين كدين مصداقا لقول الله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3] فمنذ ذلك اليوم وهم عاجزون - مهما تفاوتت القوى ومهما بلغ المسلمون من الضعف - عن إبادة هذا الدين وإزالته من الوجود، لكنهم لم ييئسوا من محاولات التحريف والتبديل ومحاولات زرع الفيروسات الطفيلية التي تغير وجهة الكثيرين من أفراد المسلمين إلى وجهة أخرى غير التي وجههم إليها الإسلام، وجهة جهنمية شيطانية وهم مقتنعون بأنهم مسلمون مؤمنون بل محسنون مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه لحذيفة حين سأله عن الخير والشر فقال: "إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟" قال: «نعم» وهو شر الاختلاف والفرقة بين الصحابة رضي الله عنهم ابتداءا من أواخر عهد عثمان رضي الله عنه (قلت: "وهل بعد ذلك الشر من خير؟" قال: «نعم وفيه دخن»، قلت: "وما دخنه؟" قال: «قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» وهذا إشارة إلى عهد ما بعد الخلافة الراشدة ووجود الملك الذي كان أعدله ملك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لكن زاد الدخن بعده وكثر المنكر لكن بقي المعروف موجودا من إقامة الدين والجهاد والدفع عن الحوزة واستمر في عهد الخلافة الأموية والعباسية وما بعدها في الجملة إلا في البلاد التي سيطر عليها أهل الزندقة والنفاق فهم المقصودون بما يأتي في الحديث بعد (قلت: "فهل بعد ذلك الخير من شر؟" قال: «نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: "يا رسول الله صفهم لنا"، قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» وفي رواية مسلم «قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس» وهذا إشارة إلى من تسلط من أهل النفاق والضلال والبدع كالباطنية والقرامطة والرافضة وغلاة الصوفية ثم العلمانيين أولياء الغرب بعد ذلك (قلت: "فما تأمرني إن أدركني ذلك؟" قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: "فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟" أي في المحل الذي يكون المكلف فيه، وإلا فلا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى تقوم الساعة (قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك») وتلك الفرق هي الداعية إلى جهنم مثل من ذكرنا وليس أهل السنة والجماعة كما يحاول البعض ممن يروج للدعاة على أبواب جهنم أن يحمل الحديث على غير ما يحتمله لصرف الناس عن الحق والتعاون على البر والتقوى.
فمحاولة أعداء الإسلام أن يغيروا وجهة المسلمين ومجتمعاتهم لم تيأس، ولا تزال محاولة تمرير المشروعات الشيطانية التي تعارض ثوابت الأمة مستمرة؛ كالطعن في التوحيد والإيمان بنشر الشرك والكفر بالغلو في الصالحين عموما وآل البيت خصوصا حتى يعاملوا كالآلهة، وتصرف لهم العبادات بأنواعها من الدعاء والاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر والطواف بقبورهم واعتقاد علمهم الغيب وتصريفهم الكون وملك الضر والنفع وغير ذلك من مظاهر الشرك، وكالطعن في مرجعية الأمة لشرع الله ونشر شرك التشريع من دون الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وكذلك الطعن في ولاء الأمة وهويتها بنشر التبعية التامة لأعدائها والتشبه بها ليس فقط في ملابسها وأزيائها بل في تفكيرها وعقيدتها وسلوكها وكل أنماط حياتها، ومودتهم ونصرتهم والدوران في فلكهم، وتحقيق مخططاتهم ولكن بأسماء إسلامية، وأناس منتسبون إلى الإسلام بل وإلى الدعوة إليه أحيانا.
ومن فلت من هذه الشبهات الثلاث أو إحداها فسيل الشهوات الجارف ينتظره ليغرقه في أودية سحيقة من عبودية المال والجنس والملك والرياسة يبيع دينه بعرض من الدنيا يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً، ويُصبح مؤمناً ويُمسي كافراً قد اتخذ أنداد المحبة والتعظيم من دون الله، وصار عبداً للدينار والدرهم والقطيفة والخميصة لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه.
وما أسهل قياد هذه النوعية من الناس إلى الحضيض الأسفل خصوصاً مع المخدرات المبثوثة بأبخس الأسعار، والسعار الجنسي والعري والتبرج والمواقع الإباحية والقنوات الفضائية التي تروج لحياة الليل والسكر والإباحية وتتسلط على طبقات كبيرة من شباب المجتمعات المسلمة باسم المدنية والحضارة، وخصوصا في الطبقات المترفة التي تعد لقيادة هذه المجتمعات، وحتى في الطبقات المطحونة تنشر فيها أنواع الرذيلة ببثها بطريقة تناسب أهلها. فكلا الأمرين: الفقر المنسي والغنى المطغي من المهلكات.
ويوجد في مجتمعات المسلمين بل والدعاة من يسمح بالمرور لكل من هذه الشبهات والشهوات أو الواحدة منها، والواحدة منها كافية لتدمير المجتمع وتضييع الأمة؛ فالرافضة والصوفية والعلمانية أحصنة طروادة - وليس حصاناً واحداً- مستعدة للهجوم على أمتنا متحالفين مع أعدائها من اليهود والنصارى والمشركين بما لم يعد يخفى على أحد، وما كان بالأمس سرا يُستخفَى به صار اليوم علنا يظهر للناظرين. وللأسف يوجد في كل فصائل العمل الإسلامي من يسمح بمرور أحد هذه الأحصنة متدثراً إما بدثار الكلام العاطفي عن وحدة الأمة دون البحث عن أسباب الوحدة الحقيقة، أو بدثار الحذر من الفرقة والاختلاف، أو بلزوم جماعة المسلمين والسمع والطاعة لأئمتهم أو غير ذلك، فما العمل وقد كثر الخلل وزادت الزلازل والمحن؟
أقول لابد من الأعمدة الخرسانية التي تثبت في مواجهة الزلازل، لابد من شخصيات إسلامية صدقت في التزامها علما وعملا وسلوكا وإيمانا وإسلاما وإحسانا، هذه الشخصيات المفقودة في الأغلب هي أعواد الحديد المسلح الذي تتثبت به بقية الطائفة المؤمنة التي قد لا نرى لها طاقة بكل هؤلاء الأعداء مثلما كان الذين يظنون أنهم ملاقو الله في جيش طالوت سبباً في تثبيت بقية الطائفة المؤمنة التي مرت بمراحل تمحيص عديدة كانت أخراها مجاوزة النهر قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ ملاقوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 249 - 251] فهذه القلة الموقنة المحسنة التي تظن أنها تلاقي الله وأمر الآخرة نصب أعينها كأن القيامة أمامها رأي عين، وحب الله قد ملأ قلوبها بحيث أن يقين لقائه ورجاء الله والدار الآخرة لم يدع مكانا لغير ذلك من الإرادات كمن كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] بهذه القلة الذاكرة الداعية - فالدعاء من أمضى وأقوى الأسلحة- بهذه القلة الصابرة المتوكلة التي تظهر آثار أحوال قلوبها على جوارحها وسلوكها، المعتصمة على الدوام بالله تعالى، المؤمنة بقضاء الله وقدره وأسمائه وصفاته، المستحضرة لمعية الله عز وجل بهذه القلة ثبت الله باقي المؤمنين وكانوا مؤمنين صادقين كما في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «وما جاوز معه النهر إلا مؤمن» [صحيح مسلم] هؤلاء هم أعواد الحديد المسلح التي تصبح بها الأعمدة أعمدة خرسانية.
أين أنتم يا بناة الأمة ويا أصحاب الدعوة من تكوين هذه الشخصيات؟ أين هي فيكم أولا؟
هل مازلنا نهتم بنفخ البالون ونهمل إعداد الأعمدة وما بها من حديد؟
الفتن القادمة أكثر من أن يحتملها بنيان ضعيف فضلا عن أكياس رمل فضلا عن بالون هوائي.
نريد صدقاً مع الله في العلم والعبادة.
نريد صدقاً مع الله في الذكر وإصلاح القلوب.
نريد صدقاً مع الله في تهذيب الأخلاق والسلوك وضبط المعاملات بضوابط الشرع.
نريد صدقاً مع الله في روابط الأخوة الإيمانية وتوثيق علاقات الجسد الواحد، وليس أن يظل كل واحد منا جزيرة مستقلة أو عضوا لا يعمل في جسد فيكون محكوما عليه بالموت.
نريد لبنات صالحة متراصة لتبني صفا قويا يحبه الله.
نريد أن نتخلص من أهواء التفرد ونرجسية الأنانية وحب الظهور والشهرة ولو أتى بعد ذلك الطوفان.
هل آن لنا أن نتدارك الأمر قبل الخطر المقبل؟
ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.