قصة حقيقية إسمها غزة.. وكأنه العصر الحجري
غزة- ليلةٌ عصيبة مرت ساعاتها ودقائقها بطيئة كسلحفاة على قلب غزة.. مُظلمة باردة قاسية.. انقطع نورها وغاب بالكامل إلا من ضوءِ وحيد قادم من السماء ينبعث من القمر يواسي أهل القطاع ويربط على جراحهم... ليلةٌ حوت مشاهد تنطق وحدها دون ريشة رسام أو حنجرة شاعر وقلم روائي... في كل بيت كانت ثمة قصة وحكاية تتشابه أنفاسها في رائحة الألم والمعاناة.
"كيف كانت الليلة".. هذا السؤال الصعب جدا حاولت "إسلام أون لاين" الإجابة عليه، وألحقته باستفهامٍ آخر: "ونهاركم تُراه.. كيف سيكون؟؟".
مساء أمس وتحديدا حين دقت الساعة الثامنة شعر سُكان غزة أنهم أبطال لإحدى حكايات الخيال، وأن لعنةً ستصيبهم لتحيلهم إلى عصور الظلام...
أبو رامي رجب وصف تلك الدقائق بالمُرعبة قائلا: "الإذاعات المحلية لم تتوقف عن بث الأخبار العاجلة والتحذير من أن الكهرباء ستُقطع في أعقاب نفاذ الوقود.. شعرنا بأن المُصاب جلل.. وأننا في تمام الثامنة سنتحول إلى شخوصٍ آخرين... أو أننا سندخل في آلة زمن تُعيدنا إلى عصورٍ قديمة".
الشموع حاضرة
في بيت أم أحمد كانت الشموع حاضرة بقوة وقالت: "كل تفاصيل حياتي تغيرت في هذه الساعات... ملابس أطفالي اضطررت لغسلها على يدي، زوجي العاشق للقنوات الإخبارية احتضن مذياعا صغيرا يعمل على البطاريات، ابنتي الجامعية تدرس على نور الشمع".
سلمى الزهارنة نظرت إلى أطفالها وتمتمت بحسرة: "عُطلة منتصف السنة كانوا ينتظرونها بفارغ الشوق لقضائها على جهاز الحاسوب للعب ومشاهدة أفلام الكرتون... مساكين سيضطرون للنوم باكرا خوفا من الظلام". وتستدرك بحنق: "حتى أحلام الأطفال طاردوها".
لا وجود للغاز في بيتها والزوج العائد من العمل يشتهي الطعام.. أم حامد نادت على أولادها لإحضار الحطب: "لا حل أمامي سوى العودة لعصر الطبخ على الحطب!..".
جارتها فعلت الشيء ذاته إلا أنها اصطدمت بـ"المخابز أبوابها مُغلقة، ولا رغيف خُبز".
"ألهبة النار المصحوبة بدخانٍ أبيض". تكاد تنبعث من كل سطح بناية في غزة.. أراد سكانها التماس الدفء للاحتماء من برد "كانون" ولسعاته القاسية في غياب أجهزة التدفئة وانعدام فائدتها، وأيقنوا أن لا مناص من العودة إلى عهد "كانون النار" وإلا ماتوا بردا...
الكارو بدل السيارات إن كان ليل غزة قد مرّ وكأنه دهر... بكل تفاصيل قسوته ومعاناته فإن نهارها لم يختلف كثيرا. فالمحظوظ هو من يتعثر بسيارة تقله إلى مكان عمله فالسيارات والمركبات العمومية كادت أن تنعدم من شوارع القطاع... اضطر كثيرون بمن فيهم كاتبة هذه السطور إلى الانتظار لأكثر من ساعة حتى لاحت من بعيد "سيارة" أقلتها..
سائق السيارة علق قائلا: "اليوم ركبتم.. غدا لا أظن.. استعدوا لممارسة رياضة المشي".
صوت ساخر من السيارة يُتابع: "لا مكان للسيارات.. اركبوا العربات البدائية (الكارو)"... ثالث بقوة يستدرك: "مستعدون لكل شيء... ألم الجوع.. والبرد.. والتعب.. ولا ألم التنازل..".
أن تمشي في شوارع غزة فستصطدم بأكوامٍ من القمامة بسبب عدم وجود شاحنات تنقلها مما ينذر بحدوث كارثة بيئية وصحية تحمل في طياتها العديد من الأمراض.
الحاج أبو شادي رأى أن إسرائيل تريد من خلال هذا الحصار الذي وصل إلى أدق تفاصيل الحياة إرغام الفلسطينيين على القبول بشروطها: "تُدمر وتقتل... تمنع الوقود.. تحاصرنا.. لكي نعترف وننسى حقوقنا.. نموت ولن نركع...".
المرضى ينتظرون الموت
جولة هذا النهار إلى مستشفيات غزة كانت كفيلة باختصار المشهد المأساوي.. الأطباء يتفرجون على مرضاهم وهم يموتون أمامهم... العمليات متوقفة.. ومن يئنون على أسرة المرض باتوا ينتظرون الموت... ودّعوا الأمل في الشفاء.. والواحد فيهم ينظر إلى الآخر: "تُرى أي الأرقام سأحمل"...
وكان الحصار قد غيّب 72 روحا بسبب نفاد الأدوية ومنع نقلهم إلى المستشفيات في الخارج، وأمام انقطاع الكهرباء ستكون مستشفيات غزة على موعد لتوديع العشرات.
المصانع أصابها الشلل التام... المخابز علّقت على الأبواب لافتات: "آسفون لا يوجد خبز".
غزة ليلها ألم، ونهارها أكثر ألما، وعيونها ترقب من يحمل الضمادات ويداوي جُرحها.. قلبها تزداد خفقاته: "أيا عرب.. أيا مسلمون.. أيا مصر الكنانة.. إني أحتضر فهل من مُغيث؟"
وفرضت إسرائيل إغلاقا تاما لكافة معابر قطاع غزة الخميس الماضي بزعم الرد على إطلاق الصواريخ من غزة مما ترتب عليه منع وصول إمدادات الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء ليغرق القطاع كله مساء الأحد في الظلام منذرا بوقوع كارثة إنسانية ولا سيما في القطاع الصحي.
وجاء إغلاق المعابر بعد يومين من بدء الاحتلال شن سلسلة غارات على القطاع سقط خلالها 39 شهيدا بالإضافة إلى أكثر من 200 مصاب.