التصوير الذري.. سباق في الضآلة
على النقيض تماماً من المقاييس الفلكية التي يعمل بها (هابل) وسواه من آلات التصوير الفضائية¡ يعكف فريق آخر من العلماء على تصوير العالم المجهول الذي تمثله الجسيمات الذرية بالغة الضآلة.. عبر وحدات زمنية ضئيلة جداً بدورها.
فعندما استطاع العالم العربي (أحمد زويل) مع فريقه البحثي أن يصل إلى رصد تفاعلات كيميائية تحدث في واحد على مليون من بليون من الثانية.. وهو ما سُمِّي بـ (الفيمتو ثانية) ونسبة هذه المدة إلى الثانية الواحدة تعادل نسبة الثانية الواحدة في عمر الزمن إلى 32 مليون سنة¡ اهتز المجتمع العلمي واعتبر إنجاز العالم العربي فتحًا جديدًا استحق عنه جائزة نوبل بجدارة. لكن مسيرة العلم لا تتوقف, وثمة حديث الآن عن (الأتو ثانية) وهي تساوي جزءًا على بليون من بليون من الثانية!
لقد تأكد العلماء أنه كلما صغرت الفترة الزمنية, زادت صعوبة متابعة الأحداث. وقد أدى اكتشاف الليزر في الستينيات من القرن العشرين, إلى دفع العلماء خطوات للأمام في ملاحقتهم لتلك الأحداث. وأكثر أنواع الليزر شيوعًا تعمل بإثارة ذرّات لغاز خامل مثل النيون (وهناك ليزرات أخرى تعمل بأجسام صلبة مثل الياقوت الصناعي أو حتى بصبغات عضوية), وعندما تحدث حالة (استرخاء) لتلك الذرات وتعود إلكتروناتها إلى مواضعها الأصليّة¡ يتوهّج الغاز بطول موجيّ مميز للضوء سواء كان مرئيًا أو موجات دقيقة أو أحمر أو أزرق. ويتوقف هذا على الذرّة المثارة. ويدفع الليزر موجات الضوء إلى الانطلاق بشكل متوافق ومنسق مع تركيز الوهج في شكل حزمة كثيفة من الضوء, تتسم بالنقاء والتماسك.
وفي أواخر الثمانينيات من القرن العشرين, وصلت نبضة الليزر في القصر إلى 6 فيمتو ثانية, وبينما كان الباحثون قديمًا يضطرون إلى ملاحظة الصور التي تُلتقط قبل التفاعلات الكيميائية وبعدها, يمكنهم الآن رصد صور بطيئة لعملية التفاعل ذاتها.
ومنذ ذلك الوقت بدأ العلم الجديد المسمى (كيمياء الفيمتو) يركّز على كيفية حدوث التمثيل الضوئي في النباتات وغير ذلك من التفاعلات الكيميائية الجزئيّة. وفي عام 1999 نجح زويل في إجراء سلسلة من التجارب الرائعة التي أوضحت كيف يتم تحطيم الروابط الكيميائية ثم إعادة تكوينها خلال فترة زمنية تتراوح بين 100 - 200 فيمتو ثانية. ونبضة الفيمتو ثانية مفيدة للغاية في حفر ثقوب بالغة الدّقة, ولأن طاقتها تتبدد بسرعة, فليس هناك وقت كاف للمادة المحيطة لكي تسخن وبالتالي يقل الاضطراب وتزداد الفاعلية. وتستخدم حاليا نبضات الفيمتو ثانية لحفر مسالك دقيقة للغاية داخل ألواح زجاجية خاصة, وهو تطور يمكن أن يُحدث ثورة في مجاليّ تخزين البيانات والاتصالات السلكية واللاسلكية. ويعكف الآن الباحثون في استخدامات الفيمتو ثانية, على تطوير وسيلة جديدة لإجراء جراحات في العيون بأشعة الليزر, تؤثر مباشرة في القرنيّة دون أن تتلف النسيج الذي فوقها. وأخيرا تم استخدام تقنية الفيمتو ثانية لتفسير الكفاءة الرائعة التي تتم بها بعض تفاعلات التمثيل الضوئي في النبات. إن الوحدة الجوهرية في تجميع البروتينات التي تتحكم في عملية التمثيل الضوئي هي مجموعة من الجزيئات, تمثل قلب التفاعل, تحفّز التفاعلات التي تحول طاقة الشمس إلى طاقة كيميائية لازمة لإنشاء المادة العضوية وتحيط بهذه الوحدة شبكة من البروتينات, تتكون أساسًا من اليخضور (الكلوروفيل) وعندما تسقط أشعة الشمس على هذه البروتينات, تقوم بامتصاص فوتوناتها الضوئية, ثم توجه طاقتها تجاه مركز التفاعل.
إن هذا التوجيه هو الذي يسحر عقول الكيميائيين. فالعملية تبدأ بامتصاص جزئي من اليخضور لفوتون ضوئي, وعندئذ يحصل على طاقة من الفوتون. بيد أن تلك الطاقة تتحول إلى جزيء يخضوري مجاور يمررها بدوره إلى جزيء يخضوري ثالث وهلم جرا. وبهذه الطريقة تقفز طاقة الفوتون ما بين جزيئات اليخضور حتى تصل إلى مركز التفاعل.
وبينما تنتقل الطاقة خلال شبكة جزيئات اليخضور, فإنها تغيّر من طريقة امتصاصها وإطلاقها للضوء, ويسمح ذلك بالكشف عن الطاقة المتدفّقة. وقد تتبع العلماء حركة الطاقة تجاه مركز التفاعل, وأوضحوا أن (القفزات) بين الجزيئات حدثت في بضع مئات من الفيمتو ثانية, ولكن لم يكن بوسع هؤلاء العلماء الإمساك بالطاقة, وهي تتحرك من جزيء إلى آخر.
وأدت السهولة والكفاءة التي تقوم المنظومات الدقيقة للتمثيل الضوئي بتوجيه الطاقة بها تجاه مركز التفاعل, إلى محاولة بعض الكيميائيين ابتكار مماثلات صناعية لها. ويأمل الباحثون في إمكان الاستفادة من الطاقة الكيميائية, التي تولّدها تلك المنظومات لحفز عملية تخليق جزيئات عضوية مفيدة مثل الوقود. وربما سوف تنقضي سنوات قبل أن ينجح العلماء في محاجاة ما صنعته الطبيعة في بلايين السنين, إلا أن الباحثين يعتقدون أنهم سوف يتمكنون في نهاية الأمر من صنع منظومات فعّالة, تكون بمنزلة بوابة للإكثار من إنتاج المحصولات الزراعية.
وباختصار فإن الفيمتو ثانية تعتبر فترة زمنية رائعة بالنسبة للتعامل مع الذرّات والجزيئات الكاملة. أما بالنسبة للفيزيائي المهتم بالإلكترونات التي هي أصغر وأخف وأسرع بكثير من الأنوية الذرّية التي تدور حولها, فإن المقياس الزمني (الفيمتو ثانية) يعد بطيئًا جدا, ولذلك فهم مهتمون بالتقدم خطوة أخرى إلى الأمام في اتجاه (الأتو ثانية.
لكن على الرغم من ثورة الاكتشافات العلمية التي تحققت بفضل تقنيات الفيمتو ثانية, فإن بعض جوانب الكيمياء مازالت عسيرة المنال. فمهما كانت نبضة الاستكشاف المستخدمة, فإن كاميرا الفيمتو ثانية لا تقدم لنا سوى القليل من المعلومات عن مواضع الإلكترونات داخل مداراتها حول أنوية الذرات.
وطبقًا للنظريات التقليدية, فإن الإلكترون يدور حول نواة ذرة الهيدروجين في كسر من الفيمتو ثانية, وعلى ذلك فإننا نحتاج إلى نبضات لا تتعدى بضع مئات من الأتو ثانية لتتبع كل إلكترون في الذرّة. وإذا أمكن توليد نبضات تستمر لعدة أتوات ثانية, فإن عددًا من الظواهر الجديدة سوف يتيسر اكتشافها, وأحد الأمثلة على ذلك: سلوك الإلكترونات في الجزيئات المثارة, فالجزيء يكون أكثر ميلاً للتفاعل الكيميائي عندما تكون أحد إلكتروناته في حالة إثارة. إلا أن الإلكترون قد يعود مرة أخرى إلى حالته الأصلية قبل حدوث التفاعل. ومن الممكن أن تساعد دراسة حركات الإلكترونات المثارة في تفسير سبب حدوث بعض التفاعلات الكيميائية بينما يفشل بعضها الآخر في تحقيق ذلك.
خلال العام الماضي 2005 أعلن العلماء في (معهد التكنولوجيا) بفيينا بالنمسا, أنهم نجحوا لأول مرة في توليد ومضات أشعة سينية (أشعة إكس) منفصلة تستمر لمدة تقاس بالأتو ثانية. والومضات المعلن عنها - التي تستمر لنحو 650 أتو ثانية - (كامنة) في الأشعة السينية بالطيف الكهرومغناطيسي, أثمرت فيما بعد عن أخذ قياسات بالأتو ثانية لظاهرة فيزيائية معينة, هي انفصال إلكترون عن ذرة, إثر (ضربها) بفوتون (وحدة الضوء) من الأشعة السينية.
ومن واقع تلك التجربة وما سبقها من تجارب قامت بها جماعات بحث أخرى, أصبحت (فيزياء الأتو) في طليعة المجالات الفيزيائية, التي تتعامل مع أصغر وحدات قياس للزمن. كما أن (كيمياء الأتو) صارت حديث ما بعد (كيمياء الفيمتو) التي ابتكرها عالمنا العربي الكبير د.أحمد زويل.
ومثلما يمكن للمصباح الومضيّ بآلة التصوير أن يعطي لقطات ساكنة لقطرة ماء ساقطة, فإن نبضات الفيمتو ثانية يمكنها أن تسجل مراحل التفاعل الكيميائي فائقة السرعة بين الجزيئات بعضها البعض, أما نبضات الأتو ثانية فإنها ترصد الحركات الأكثر سرعة للإلكترونات داخل الذرة, وفور إمساك الفيزيائيين لنبضة أتو ثانية, تأكدوا من فائدتها لهم. وصوّب العلماء نبضة أتو ثانية إلى ذرات غاز الكربتون, فأثارت نبضة الأتو ثانية ذرّات الكربتون وانتزعت منها إلكتروناتها. ثم تمكن العلماء من الحصول على قياس دقيق للغاية, في حدود بضعة أتوات ثانية, للمدة التي يحتاج إليها الإلكترون لكي يضمحل وهو تحوّل يقترن بانبعاث طاقة, ولم يكن ممكنا أبدا من قبل دراسة الخصائص الديناميكية (القوى المحركة) للإلكترونات من خلال مقياس زمني بالغ الضآلة إلى هذا الحد
وحوّلت تلك التجربة عالم الفيزياء إلى خلية نحل, إذ أصبحت الإلكترونات الآن مجالا للبحث والاستكشاف للأسرار الغامضة للمادة, لقد بدأ عصر (فيزياء الأتو ثانية ليس فقط في تتبع تلك العمليات, ولكن أيضًا في السيطرة على (استرخاء) الذرة بعد (إثارتها) (أي زيادة طاقتها نتيجة لامتصاصها فوتونات أو نتيجة لحدوث تصادم بها), وهذا مثير جدًا, فعلى سبيل المثال فبالسيطرة على الطريقة التي تُطلق بها الذرات أشعة إكس من خلال مقياس الأتو ثانية يمكن تصميم جهاز ليزر يستخدم أشعة إكس, وهو حلم طالما راود مخيلة الفيزيائيين.
كما أن صناعة أشباه الموصلات والترانزستورات والمعدات الإلكترونية الأخرى مثل رقائق الكمبيوترات التي نحتاج دائما إلى زيادة سرعتها, سوف تستفيد بالطبع من مقياس الأتو ثانية فائق الصغر. كما سوف تتيح تطبيقات كيمياء الأتو اكتشافات مذهلة في المجالات الطبية والمواد الوراثية (دنا ورنا) والأحماض الأمينية والهندسة الوراثية وابتكار أدوية جديدة أكثر فاعلية, بعد دراسة دقيقية لتفاعلاتها مع الخلايا بوساطة تقنيات الأتو ثانية.
ويدرك العلماء أن كل قدم تقني آخر, يؤدي إلى نبضات أصغر من الأتو ثانية, سوف يثمر في النهاية تطورًا علميًا هائلاً, وهذه بالضبط الخطوة التالية. وفي يوم ما - لعله ليس بعيدًا جدًا في المستقبل - حتى الأتو ثانية بالغة السرعة, سوف تقتصر على تحقيق بعض الأهداف المرجوة, وسوف تبدو الإلكترونات (بطيئة وكسولة)! وكلما تمكن العلماء من سبر غور كيانات أصغر وأصغر من المادة, الكواركات - على سبيل المثال - التي تكون بروتونات ونيترونات نواة الذرة, فإن العمليات الفيزيائية تصبح أسرع بكثير, ومن ثم فإن المقياس الزمني سيكون على الأرجح - في نطاق (الزيبتو ثانية) أي واحد من ألف بليون من بليون من الثانية! وهناك جهاز ليزر يتم تصميمه في الوقت الحالي أطلق عليه (ليزترون) ليستخدم في إصدار (الزيبتو ثانية).
وربما تتساءل: هل الزيبتو ثانية هو آخر المطاف في الإبحار في دياجير الزمن البالغ الضآلة¿ لن يتوقف العلم عند حدود معينة, بل سوف يتجاوزها إلى ما يفوق خيالنا العلمي. وسيكون الزمن المتناهي الصغر في بؤرة الأبحاث العلمية المستقبلية, وسيحصل الباحثون في هذا المجال على المزيد من جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء, ونتمنى أن يكون بينهم علماء عرب.
أهم المصادر:
1- كامل مادة (تصوير الفضاء: النظر للماضي) نقلاً عن مقال: (نافذة الأرض على عوالم مجهولة) بقلم (بروس غولدفارب). مجلة (هاي) عدد ديسمبر 2005.
2- كامل مادة (التصوير الذري.. سباق الضآلة) نقلاً عن مقال: (مابعد زويل.. إطلالة على عالم الأتوثانية) بقلم (رءوف وصفي). محلة (العربي) عدد فبراير 2005