المعماري المصري المبدع
من هو حسن فتحي
العمارة فن وحضارة ودليل عراقة وأصالة أي شعب من شعوب المعمورة ، والعمارة ليست كياناً مستقلاً يمكنه أن يمارس في أكثر من بقعة من العالم ، وإنما على العكس تماماً تتفاعل مع ظروف محلية اجتماعية ثقافية نفسية ، وطبيعية بيئية ومناخية ، ولذلك فهي تحتاج إلى مفاعلة عدة عناصر مختلفة لتشكل جسماً إبداعيا متكاملاً ومنسجماً يجسد رغبات ساكنيها بالراحة والصحة والأمان .
وفي هذه المقالة سنتحدث عن أحد أهم رواد العمارة العربية الإسلامية المعاصرة وتجربتة المعمارية / ألا هو المعماري الرائد والفنان المصري المبدع حسن فتحي ( 1900 – 1989 م )
ملامح تجربة حسن فتحي المعمارية : يتميز موقف وممارسة حسن فتحي المعمارية بضرورة الاعتماد على عناصر البيئة المحلية في تشييد أي بناء معماري ، ولا يعتبر حسن فتحي العمارة كمأوى فحسب ، وإنما تعبير حي عن وجدان الإنسان ، وتلبية لرغبته المستمرة في الانتماء واكتشاف النفس ، والميل الغريزي للخلق والإبداع ، وهو من أنصار ومؤيدي فكرة التحاور الثلاثي الرائع بين العمارة والطبيعة والإنسان ، وأهمية تكاملها وتعاونها على أثراء وإخصاب وإنعاش الحياة ، وإضفاء طابع جمالي وأبعاد روحية عليها ، وتقدم تجربة حسن فتحي في جانبها الثقافي والحضاري مساهمة خلاقة في الجدل الدائر حول الذاتية الثقافية العربية ومحاربة التغريب في العمارة ،يعتمد حسن فتحي في تجربة المعمارية على مفردات محددة كالبيئة ، البشر ، الخالق ، الجماعة ، الطمي ، الاستغلال ، وتجربته هذه بحد ذاتها أفق مفتوح أمام الإبداع المحلي بالذات ، في هذا الصدد يقول حسن فتحي : " إن العالم في أي لحظة إنما هو صفحة بيضاء في انتظار قلمنا ،ِ والفراغ الشاغر قد يتم شغله بمعبد أو بكوم خبث " وحول استخدام الطين في العمارة يقول : " الطين هو السيد منه خلقنا ومنه نبني وإليه نعود " ولا يخفى على أحد مميزات العمارة الطينية وبخاصة في المناطق ذات المناخ الصحراوي وشبه الصحراوي حيث الحرارة في الصيف والبرد في الشتاء ، والطين يقوم بدور نشط في عملية العزل الحراري واستناداً إلى ذلك دافع حسن فتحي عن العمارة الطينية دفاعاً قوياًِ ، وكان من أبرز الدعاة لهذه العمارة ويقول:
" انظر تحت قدميك وابن " ويقول أيضاًَ – في هذا المجال - : " إن واقع المناخ المحلي له إنه يفرض طراز البيت ومن الخطأ نقل الأفكار من بلد إلى آخر دون أخذ المتطلبات المحلية بعين الاعتبار ، .. إن الشرق العربي أصيب بالذهول أمام التقدم الصناعي الأوربي لدرجة دفعت به إلى أن يرمي بتراثه " تراث الشرق والغرب " عرض الحائط ، ويستعين بنقل حضارة أخرى ، وِإن السعي لامتلاكها هو السبب في تفاقم مشاعر الضياع والاستلاب في المجتمع العربي . إن ما حدث في الشرق أنه أدار ظهره لثقافته وأخذ بتقليد كل ما هو غربي "
- ترتكز تجربة حسن فتحي المعمارية على " البيئوية " – أن جاز التعبير – أو بتعبير آخر على " الخصوصية " وتعني " الخصوصية " في فكر حسن فتحي / استخدام واستثمار موارد البيئة المحلية وتوظيفها في بناء عمارة محلية تحتضن التقاليد الثقافية المحلية ، وهي من جهة أخرى حركة فكرية تعمل على تحقيق الانقطاع بين التراث الاستعاري والسعي إلى فك الارتباط مع الجمالية الثقافية الاستعارية ، وتؤدي محصلة الحركتين السابقتين إلى تحقيق الاستقلال الثقافي المتمركز على الاكتفاء الذاتي بلا عدوانية أو صدام ، وحول أهمية التراث بالنسبة للعمارة يقول حسن فتحي في كتابه " عمارة الفقراء " ص 49 : " العمارة مازالت من أكثر الفنون تعلقاً بالتراث ، وعمل المهندس المعماري يقصد به أن يتم استخدامه وشكل العمل يتحدد إلى حد كبير بما سبقه ، وهو يقام أمام الجمهور حيث يجب أن يراه أفراده كل يوم ، وينبغي أن يحترم المهندس المعماري أعمال سابقيه ، ويحترم إدراك الجماهير ، والحقيقية أنه ما من معماري يستخدم معمارة كوسيلة للإعلان الشخصي وما من معماري يستطيع تجنب استخدام عمل المعماريين السابقين له ، ومهما كان ما يبذله من جهد جرياً وراء الأصالة فإن الجزء الأكبر من عمله يكون إلى حدٍ بعيد منتسباً إلى تراث أو آخر : فلماذا ينبغي إذن أن يزدري تراث بلده هو نفسه ومنطقته ، ولماذا ينبغي أن يجري تراث أجنبي في تركيبات مصطنعة وغير مريحة " وعموماً يمكن القول بأن تجربة حسن فتحي المعمارية تجربة غنية تعتمد على الخصوصية الثقافية والحضارية ، وترتكز على مقومات وعوامل وموارد البيئة المحلية ، والاستفادة من التراث والابتعاد عن التغريب الثقافي والحضاري أي تطبيق تجارب غريبة على الخصوصية المحلية والبيئية ...
حسن فتحي .. مبدع قرية القرنة : لقد أبدع حسن فتحي معمارياً في قرية القرنة في مدينة الأقصر بجنوب مصر ، في أواخر الأربعينات ، والتي عدها المعماريون واحدة من أهم المعالم الحضارية في العالم الثالث ، وجدير بالإشارة أن " ريفيور " أستاذ العمارة بجامعة أريزونا قد أشاد بتجربة حسن فتحي في قرية القرنة عند ما قال " إن حفريات المعرفة بعد ألف عام 2900 م حين يبحثون في " القرنة " سيجدون حفائرها أهم من مدينتي نيويورك وباريس ، إنه لو نفذ مشروع القرنة في نيويورك أو لندن أو باريس للاقى التقدير اللائق به ، أما في مصر فلا " وبعد قرية "القرنة " أبدع حسن فتحي في مشروع قرية واحة باريز بالواحات الخارجة ، وكان من حوَل طريقة وأسلوب البناء المعماري ، وكان بذلك يحاول جاهدا الحفاظ على الخصوصية المحلية والسيكولوجية "النفسية " والاجتماعية لكل منطقة تريد أن تقيم مشروعا سكنيا أو معماريا ، ولهذا فان ممارسته هذه تعد رفضا لتعميم نمط معين من العمارة على أكثر من إقليم أو مدينة أو بلد بكاملة
إبداع رائع وجوائز دولية :
انتقد حسن فتحي انتقادا لا ذعا العمارة القائمة على النمطية والتعميم دون الأخذ بالاعتبار الظروف البيئية والمحلية الخاصة لسكان وأرض ومناخ كل منطقة ويقول في ذلك : "ليس من المعقول أن نشيد بيتا شرقيا في أوروبا ، أوبيتا أوروبيا في الصحراء العربية " ويقول أيضا : " إن أحدا لا يستطيع أن ينظر بعين الرضا الى المباني التي تزرع في بيئة أجنبية عنها " ، لقد سبق حسن فتحي في الأربعينات أصحاب اتجاه عمارة " البدائية الجديدة " بانجلترا في أهدافهم التي أعلنوها في الستينات حول مسؤولية المعماري عن مواءمة المبنى لمحيطه وعن إظهار حقيقة الإنشاء بالحوائط الحاملة والعقود والقباب داخلهاوخارجها، وفي التعبير عن حقيقة المبنى ، وقاد حسن فتحي الغرب في اتجاهه لتأكيد أهمية العمارة الشعبية مما انعكس بعد ذلك في أعمال "فنتوري " وغيره من المعماريين
حاز حسن فتحي على العديد من الجوائز المعمارية ويعود ذلك إلى كتاباته عن مبادىء وأفكار واتجاهات ظهرت بعده عالميا بما يزيد الثلاثين سنة ، وهو لم يكتف بالكتابة النظرية وإنما ترجمها إلى سياق عملي وتطبيقي وجاء كبار المعماريين العالميين لدراسة أفكاره وآرائه ونظرياته المعمارية ، وتكونت مدارس عالمية تدين له بالريادة والقيادة ، كما استشهد رجال سياسة وقيادة بأعماله باعتبارها مثالا على الأعمال التي تحترم استمرارية العادات والتقاليد والتراث بواقعية المصلح الاجتماعي وإبداع الفنان وتواضعه ، لقد قال عنه الاتحاد الدولي للهندسة الإنشائية 1987 م بأنه " أحسن مهندس إنشائي في العالم " وتطرق حسن فتحي إلى الكثافة السكانية فقال : " إن المسطح الجغرافي لا يستوعب سوى عدد محدود من الناس لتحقيق التوازن الايكولوجي بين لإنسان والحيوان والنبات ، وأن يستوعب كمية محددة من الماء فاذا زادت الكمية عن طاقة الإناء انسكب خارجها ، ولا يمكن للإناء استيعابه إلا بطريقة واحدة وهي أن نجمد الماء في شكل عمود من الثلج ، ويعد التكدس الرأسي تجميدا للبشر بمختلف المقاييس " ومن أهم كتبه كتاب " عمارة الفقراء "وهو عمل قيم ، وقد قال قبيل وفاته : " إن تحقيق عمارة البسطاء هي الأمل الذي طالما راودني ، وأعيش به ، ويد فعني إلى مواصلة حديثي للناس ليمتلئوا بالفكرة ، لعل وعسى أن ينجح بعضهم في تحقيق حلمي كمعماري مصري عايش هؤلاء الناس ،وأصغي جيدا أو طويلا إلى نغمات الجدران والأسطح في بيوت بسطاء مصر "
وختاما :
لقد كان حسن فتحي مثقفا وفنانا مكافحا من أجل عمارة تتلاءم مع التقاليد الاجتماعية المتعارفة ، ومع الحضورية المحلية والتراث الثقافي للمنطقة العربية والإسلامية ، وأثبتت الوقائع العديدة في العالم صحة مقولاته وأفكاره خصوصا ما نشهده من أزمة سكن وأزمة مدن وأزمة تخطيط عمراني في العالم العربي والثالث برمته ، وما نشهده – أيضا – من " اغتراب مديني " – ثقافي – نفسي – اجتماعي – حضاري – كنتيجة منطقية للتناقض الصارخ بين المنظومة النفسية الروحية الثقافية الشرقية " الإسلامية " وبين سكن غربي وافد محول إلى علب كبريت صغيرة على يد وعقل وممارسة تجار ومقاولي البناء والعقارات الذين لايهمهم سوى الربح السريع دون إعارة أي اهتمام لمعاناة الآلاف من البشر في هذه العلب الفاسدة .