مرحبا يارفاق ..كيف حالكم اليوم ؟
أرجو أن تكونوا بخير ..
كثيرون هم من يتصفون بحسن الاستماع ، حتى لو كان ما يستمعون إليه لا يعدو كونه نوعا من أنواع الثرثرة .. إن هؤلاء في الحقيقة أناس نبلاء .. يكفي فقط أنهم لا يستوقفون المتحدث فجأة ليسألوه عن معنى كلمة ما أو مراده من جملة ما أو ليناقشوه في مسألة ما أو ليخطؤوه في قضية ما .. إنه حسن الاستماع الذي يبعث على راحة النفس و انطلاقتها و سعادتها وطمأنينتها .. ولذلك أعتقد أنني سأحدثكم قليلا هذه المرة راجيا أن تكونو نبلاء كرماء .. الصغر أم الكبر ؟
مبحث ضخم يستحق الثرثرة ..
لكن لنأجله قليلاً ..
من نحن وأين نحن وما نحن ؟
الحقيقة أن هناك شرائح وشرائح ..
هناك الطلبة أصحاب البلد ، وهم أناس مخضرمون ، عركو فقه الحياة هاهنا و شبو رجالا سمرا ينتمون إلى أسوان ..
أسوان ؟
بلد النوبة الذهبية و سكان الجبال و السهول و المدينة و بشرية السياحة العجيبة .. خليط مرعب من السائحة الإيطالية البيضاء مبهرجة السحنة و الثياب ( وقت تواجد الثياب فقط ) يقودها مرشد زنجي يلبس الجلباب و البدلة و يتحدث إيطالية الترجمانات إياها ، الإيطالية التي تظنها هندية رغم أنك تحسبها صينية ما عدا أنك تشك في كونها إسبانية صرفة .. ماذا كنا نقول ؟نعم ، وطلبة هذه الشريحة يمكنك أن تصفهم بالـ ( جدعنة ) حقاً والرجولة حقاً و الوفاء حقاً و الكرم حقاً .. لذلك أنا أحب أن أتعامل معهم ..
هناك شرائح وشرائح ..
هناك شريحة الطلبة الصعايدة القادمين من دول الصعيد المجاورة الشقيقة .. الأقصر و قنا و أسيوط و سوهاج ( أو سوهاد ، التي تحوي جرجا أو دردا ) و المنيا و بني سويف إلخ إلخ .. و هؤلاء لهم أعرافهم و لهجتهم وسيماهم التي تشبه أعراف و لهجة وسيماء الصعايدة !
ظننت هذا واضحاً !لابد أن تفطن إلى أن أدل شيء على الشيء هو نفسه ،
فمثلا لو أردت أن أصف القمر بأنه مستدير كالكرة ، لقلت في بساطة : القمر كروي كالكرة ، خاصة لو عرفت أنني لا أعرف شيئا عن هذه الشريحة أصلا !
( طريقة ذكية للخروج من المآزق )ومازالت هناك شرائح وشرائح ..
شريحة أبناء البحر ، بيض الوجوه والأكف ، غربيي الثقافة و الفكر .. هؤلاء القوم في الغالب قضوا حياتهم في كيف تعاكس فتاة و كيف تردح لخصومك و كيف تستعمل السنجة و المطوة بكفاءة و كيف تلبس البدي و الجينز و التيشيرت و الحظاظة ، رغم أنك تجد الكثير من الأذكياء و المهذبين فيهم أيضا .. لو أردت الدقة صديقي ليست الميكانكا والرياضيات التقليدية هي أهم المهمات بالنسبة لهم .. إن هؤلاء لهم طرق خاصة في حساب التكاملات و قياس الزوايا و حل المعضلات الفيزيائية و فهم الكون .. ولذلك فإن الكون بالنسبة لهم مسألة في غاية البساطة ، هذا لأنه لا يعدو ثلاثة أمور أساسية :
( فتاة ، مال ، نووووم ) ..
ماذا بقي من الشرائح ؟
هناك شرائح وشرائح ..
لكن الشريحة الوحيدة التي أود أن أحدثك عنها بشدة في الحقيقة هي : شريحة الطلاب الذين يصعب أن تطلق عليهم مصطلح الطلاب بسهولة ..
إنهم البائسون الذين يكافحون لأجل أن يتسموا باسم الطالب ، لأنهم مزيج من : البراءة ذاتها ، و الخوف ذاته و الجمال ذاته و الغباء ذاته ..
إنهم لا يكفون عن تلمس الطريق الغامض الصعب المليء بأشواك الغفلة و الحيرة و الألم بأيديهم العارية .. تصور كم ستتجرح هذه الأيدي ؟ كم شوكة ستخدشهم و كم خنجرا سيطعنهم و كما يدا ستسدي لهم الصفعات على أقفائهم ..
المشكلة الأساسية لدى هؤلاء تكون في غالب الأمر بسبب تنافر تركيبتهم الجغرافية العقلية .. تارة هو تجتره الأفكار الإماراتية و تارة تسحبه أعراف الطابع السكندري و تارة أخرى ينتعش أنفه بروائح الفجر الأسوانية المنعشة الأوزونية ، فتراه شيخا حينا و عربيدا حينا و بدويا حينا آخر ..
محدثكم هو - للأسف - أحد هؤلاء ..وهذا ليس غريبا أبداً ..أشعر أن خطرفاتي سوف تنسج قصصا عالمية ، تحوز ثلاثين نوبل في عالم المجاذيب و المجانين ، لذلك أدعوكم لمأدبتي العامرة ( كأول عقلاء يشرفونني ) لتتعرفوا نوعا من الثقافات و نوعا من الرؤى و نافذة من النوافذ التي ليس تتاح في الواقع كل يوم .. أريدكم أن تأكلو جيداً أوكي ؟ أنا لست بخيلاً كما قال عني سوار ، إنها ببساطة مأدبة فيلسوف الغبرة ، فهلم بنا معاً ..
البيت بيتك ..
********************************
مرحباً أيها الغريب ..إن زيارتك لعالمي ،كقطعة ثلج تلوكها في الحر ..أو كضوء قمر ينير أحلامك ..لأن زهور الأقحوان تنمو في مروج السعادة ..و بلابل الشمال الرمادية تغرد لك كي تبتسم ..فهل تجيب دعوة الفيلسوف ؟أم تأبى الجلوس معي ؟_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
معي ،يصفو الأدب ..لأسكبه لك أنت فقط دون غيرك ..أبيض صافياً في أقداح كبار ..ترشف منه و تعانقني .. وتقول :إن أزهار الأقحوان لا تنمو إلا في مروجي ..أنا ، فيلسوف النحس ..فهل تقبل دعوتي ، لأقول لك :مرحبا أيها الغريب ؟( مقطع من قصيدة قديمة ، سخيفة ، لفيلسوف الغبرة )
****************
****************
أسوان ، العام الجاري 2008 ( هذا الجزء أكتبه قاعدا جوار طابور الصرف المباشر ببنك مصر ) إن " أسامة " شاب طيب حقا ..
إن " أسامة " شاب جيد حقا ..
إن " أسامة " شاب ..
ها ؟ تقول من أسامة هذا ؟
هل كنت أحدثك عن شريحة طلبة الهندسة الذين يتظاهرون بأنهم طلبة هندسة وهم في الحقيقة ليسو طلبة هندسة ؟
لقد تعرفته أول ما تعرفته في الكلية .. وهو من الطراز أسمر الوجه طفولي الملامح ، تذكرك سحنته بوجه أخيك الأصغر عندما يأكل الحلوى في الخفاء دون أن يراه أحد ..
إنها عينان ذاقتا سم الغربة و حنظل الوحدة و شوك السآمة .. يمكنك بنظرة خبيرة أن ترى الألم يند منهما واضحا مؤلما .. ولولا أن أبالغ ، لقلت لك إنهما تتأوهان بصوت مسموع ..
( تم مسح صورة العيني ، لأن صاحبهما قرأ الموضوع ، وكاد يأكلني بأسنانه لشدة الغيظ ، على كل حال ، تخيلو أي عينين كئيبتين ، وكفى !! )
عينا أسامه تلخصان لنا الموضوع بأسره ، وتوفران علينا الكثير من الوقت و الجهد والكتابة !
إنهما الكآبة في أبدع أشكالها !دعك من الأنف نفسه ( المناخير )
، فهو ليس موضوعنا على الأقل حالياً ..
كنت أقول كيف بك و قد كنت ترفل في نواعم الحياة ، تعنى بك ماما عناية فندقية من طراز عشر آلاف و أربعمئة وستة و ستين نجمة و نصف نجمة ( هذا النصف مهم لو لاحظتم ما أقصده ) ، وتشرب الحليب في الصباح و تأكل الدجاج بانيه و البوب كورن في الغداء ، تلعب الفيفا وتستمتع بهزيمة أخيك الصغير ، في حين يمنحك بابا المصروف لأجل التشيبس و الجالاكسي و المكسرات ، وتوافي ماما هدأة الليل لكي تطبع على خديك قبلتي : أنا أحبك يا صغيري ، لذا نم في سلام و أمان يغشيانك حتى تصبح .. حتى تصبح ..
حتى :
فجأة
:
تصبح وقد حككت رأسك لفرط التعاسة ، تنسى أن تغسل فمك بالمعجون الذي جلبته من الإمارات ، تلبس ملابسك المكومة تكويما في الدلاب الحديدي الصدئ ، و أنت لا زلت تحك رأسك في تعاسة ، وقد ملأت بطنك بلذائذ الفول الفاخر مع زيت السيارات الصدئه الممتع ، قبل أن تسارع في النزول إلى كلية هندسة أسوان العالمية .. عليك أن تعتمد على نفسك يا حبة قلبي ، و لذلك كنت أستغرب دائما عندما أستعيد كلمات القصيدة القائلة :
وتكافح كي تبقى أنثى ..
وأجاهد كي أبدو رجلاً ..أذكر أنني في الحقيقة كنت أسخر كثيراً من كاتب الكلمات السابقة - دكتور أحمد خالد توفيق - كيف يجاهد هذا المعتوه الأحمق كي يبدو رجلاً ؟
ألا تكفيه هامة متسقة ، و شوارب مرعبة و رطانة مصطنعة و إدعاء شفهي بالرجولة كي يوزع الرجولة على كل شيء و أي شيء من حوله ؟
ولذلك عندما تلقيت أول صفعة معنوية على قفاي - أعطيت شحاذا بدا لي للوهلة الأولى بريئا ، عشرين جنيها أول وصولي - بدأت أتخلى عن نظرياتي و قناعاتي قليلا ..
ليس أحمد خالد توفيق معتوها إلى هذا الحد إن أردت الدقة ..
وتوالت الصفعات على قفاي ، بحيث أيقنت شيئين لا مناص من الاعتقاد بهما عقيدة يقينية :
١- أن قفاي هذا أولا هو أحد أولياء الله الصالحين الأقطاب والدليل أنه لم ( يتفرتك ) لكثرة الصفعات حتى الآن ..
٢- أنني بدأت فعلا أجاهد كي أبدو رجلا !
هممممم ..
من جديد أتخلى عن قناعاتي لصالح أحمد خالد توفيق - الذي كان معتوها قبل قليل -..
و طفقت أتلمس طريقي في هذه الحياة الجديدة القاسية ، بين طموحات في غاية اللماعية ، وبين تركيب نفسي مصاب بمتلازمة الغباء الأسترالي ، تركيبة تتلخص في المزيج التالي : ( تظاهر بالقدرة مع هشاشة مريعة مع طموحات كثيرة مع كمية غير مستهان بها من الخرق و البلاهة الأصيلة ) ..
و ماذا كانت النتيجة ؟
مواقف و مواقف ، العامل المشترك الأعظم الذي تحتويه هو : إحراج و غباء و تفاهة وسماجة و سذاجة ..
قلت له وأنا أبتسم في حب :
_ مالذي الذي يضايقك يا صديقي
؟
و طفقت أرقب حركاته وسكناته ، إبتساماته و تقطيباته ، براءته وسذاجته ..
ضحكاته وغضبته العسل ..
_ ملل .. وحدة .. روتين ..رهاب العالم الخارجي
..
_ و ماذا تفعل في يومك غالبا
؟
_ أنام
..
_ ثم
؟
_ أصحو
..
_هممم .. جيد .. وهل بدلت روتينية حياتك مؤخرا ؟ أعني هل جد شيء ؟
قال لي وهو يبتسم في سعادة :
_ بالطبع لقد جد .. أنا الآن أنام بعد العصر بدلا من النوم فجرا !
ولكمته في أنفه بعد أن أحسست أنني سوف أشتعل غيضا ..
فلو أنه قال لي إنه بدأ يستذكر دروسه للكمته أيضا ..
لم ؟
غلاسة
!
هنا أعتقد أن الطعام نفد من مأدبتي تماما ..
*******************************************************
( يا بخت مين زار وخفف )*******************************************************
أرجو أن تغسلو أيديكم جيداً بعد الأكل ، و أتمنى لكم بياتاً ممتعاً في مستشفى السيل في الدرجة الثانية ، لأن الشيء الوحيد الذي أخفيته عنكم طوال حديثي و أنتم تأكلون :
مفاجأة :
الطعام مسموم !
نياهاهاهاهاهاهاهاهاهاها ..
أوقعت بكم !
ليس فيلسوف الغبرة أطهر من خلق الله سبحانه على وجه السطيحة إن أردت الأمانة ..
عمتم مساء وأتمنى لكم أحلاماً سعيده ..
نياهاهاهاهاهاهاهاها ..________________________