سرت دمعاته من عينيه نهرًا وهو يحكي قصة مرة.. لا يعلم ما نهايتها: علم أولئك اقتراب موعد قدومي إلى بيتهم ضيفًا في شهر الرحمة.. أبقى معهم ثلاثين يومًا كل عام.. أمنعهم سائر المفطرات في النهار لأعالج أسقامهم وألين قلوبهم.. وأطهر صدورهم، وعند الغروب لهم هديتان مني.. دعوة لا ترد، وفرحة عند الفطر.. عندما علموا بقدومي جعلوا يهنئون ويباركون ويستعدون.. كل عام أظن أنهم يفرحون من أجلي.. لكنهم في كل عام يتفننون في إهانتي وطردي..
عندما دخلت عليهم تعلو وجهي البسمة.. أحمل لهم هدايا ما حملها ضيف قط، فأبواب الجنة فتحت لهم، وأغلقت أبواب النيران.. وصفدت الشياطين.. ليلة خير من ألف شهر.. الحسنات تضاعف تضاعف تضاعف، والسيئات تمحى وتغفر.. هدايا أخرى لا يسعني ذكرها.. فماذا فعلوا بها؟!! أخذوها مني تكبرًا، ورفعوها فوق الرفوف ..
رأيت الجميع يهاتف الأقارب والأحباب، ويهنئ بقدومي، ولكن لماذا يحبسوني؟.. ألم تبدأ أول أيامي معهم؟ أين الذكر والتسبيح؟ أين الهمة والتغيير والعزيمة على الإصلاح.. أين القرآن؟؟!
حتى حل الظلام.. هيؤوا لي الفراش لأنام، فقلت لهم: أنا لا أنام.. أين أصحابي أهل القيام؟ ألن أجلس معكم نتبادل حلو الكلام.. ونتفق كيف يكون سباقنا هذا العام؟ فكأني أخجلتهم وأزعجتهم، فولوا مغلقين الباب علي.. وقالوا متسائلين: وهل نترك التلفاز وحده؟؟ أنت لك الصباح فقط يا ضيفنا العزيز، والآن نم.. حتى تقوم نشيطًا..
أصبحت!! والحمد لله.. والكل نيام؟؟ فجلست أمام باب الغرفة أنتظر.. رائحة البخور والعطور.. والثياب النظيفة.. حتى دخل وقت صلاة الجمعة.. هه! هل مات أهل البيت؟؟ وقفت متحيرًا، فإذا برائحة البصل والعجائن، وطباخة تحمل القدور لإعداد الفطور... وصوت قرقعة الملاعق وأزيز المواعين، حتى لم يبق إلا سويعة على الإفطار، فاستيقظوا وقد مالت الشمس للغروب يملأون أعينهم بأصناف الطعام، وينشقون عبيره، وكل منهم يضع يده على بطنه وقد سال لعابه..
وأنا تدور عيني؛ هل يمسك أحدهم مصحفًا؟.. هل ينطق أحدهم ذكرًا ودعاءً؟
وجعل أحدهم يرتب المجلس ففرحت.. أخيرًا سوف يجلسون هنا، ويقرؤون القرآن..
وفي وقت واحد يهتز البيت جزعاً، فارتبكت؛ لا أدري ما الذي حدث.. الجميع كلهم قفزوا قفزة واحدة على السفرة، وازداد البيت صخبًا وقرقعة.. أها.. أذن المغرب.. لا دعاء، لا بسملة، معركة ضارية.. نعم، فأكثر المعارك كانت في رمضان..
حتى تنهد الجميع وقفزوا إلى المجلس. ليشاهدوا ( طاش ما طاش )..
والصلاة.. لا تسألوني.. فلست أكثر منكم علماً بحالها.
ثم نظر إلي الجميع وتهافتوا يتسابقون... مَن منهم يطردني قبل الآخر؟
ومكثت في الحبس.. لا أسمع إلا.. فيلم.. مسلسل.. نقنقة.. نواشف.. عشاء.. مسابقة.. هواتف.. مكسرات.. حلويات.. وخفايف..
وبكائي لا ينقطع.. ولكني ضيف ثقيل.. فـَلأتَحَمَّلْ ثقلي وحدي.. فأنا المخطئ..
حتى قامت معركة السحور.. وقبل الفجر نام الجميع..
وهكذا خلال الشهر.. ووقتهم مقسم إلى تلفاز، وأسواق، ونوم، وطعام .. و ( كل عام وأنتم بخير (
أحبابي، هذه انتكاسة..
أحبابي، ضاع وقتكم طول العام جريًا خلف الشهوات والأهواء..
أحبابي، هذا شهر واحد وسيمضي.. شهر السباق للجنة.. شهر السباق للرحمة والمغفرة والعتق من النار..
فرصة والله لا تعوض..
مرت الأيام، والآذان مختوم عليها.. والأبصار مغشي عليها.. والقلوب عليها ران.. والعقول في ضلال..
كثمود لما هداهم الله.. استحبوا العمى على الهدى..
والعشرة الأخيرة.. ملل وسأم، والأقدام تقفز حيناً بعد حين إلى السوق.. لم يجدوا حاجتهم.. إلى الفجر.. من يرى فزعتهم للسوق يظنهم منقذين مصابًا أو مجيبين داعي الجهاد.
حتى ليالي الوتر
وليلة القدر.. ليس لها عندهم قدر.
والليلة اليتيمة
نظفوا البيت استعدادًا لطردي..
نظفوا البيت، وربطوني عند الباب من رقبتي.. حتى يلفظوني.. كما يلفظ البركان شظاياه.
ورأيت صناديق كبيرة مربوطة معي عند الباب، فلعلها زكاة الفطر.
فإذا قيل غدًا عيد.. رفسوني,, ولكنها كانت ليلة الثلاثين.. ففكوا الربط عن رقبتي.. فقلت لهم: هذه الليلة اليتيمة، من أحياها أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب.. فلم يعبئوا ولم يسمعوا.
ولا تنطق أفواههم إلا ( هذا البنطلون مرة حلو.. وهذا واسع.. وهذا صغير، والمكياج والتسريحة والـ.. ولا تنسوا المعمول.. ) وحلاوة العيد سبقت كل المآكل ذلك اليوم
طردوني لما طردوني .. وما أدراكم كيف طردوني
فذهبت لأصلي العيد.. وانتظرتهم لأسلم عليهم.. وأبارك لهم
فلم أرهم!!
لعلهم حضروا الصلاة ولكن الزحام شديد
عسى أن يكونوا بخير عندما ألقاهم بعد عام .. أدعوا لهم بالهداية ونور البصيرة.. ولا أطلب إلا منديلاً لأمسح دموعي وفي أمان الله