متحف «التسامح بين الأديان» يشيَّد على عظام المسلمين في القدس
المعركة حامية الوطيس بين الأهالي والسلطات الإسرائيلية
القدس: أسامة العيسة
ذهل الفلسطينيون من رغبة إسرائيل، ومن ثم إصرارها على إقامة «متحف
التسامح بين الأديان» على أرض أكبر وأقدم مقبرة إسلامية في مدينة القدس
تدعى «مأمن الله»، دون احترام لموتى او احياء. عملية القضاء على المقبرة
كانت قد بدأت منذ زمن طويل حينما اقيمت على جزء منها حديقة يتنزه فيها
الناس بين الشواهد وموقف للسيارات. لكن الجديد اليوم ان إسرائيل أغلقت
المقبرة تماماً، ومنعت الفلسطينيين من الاقتراب من المكان، وتحاول ان تنجز
مشروع المتحف بسرعة قياسية. المعركة ما تزال حامية الوطيس بين الاحتلال
والأهالي الفلسطينيين.
توجه مصطفى أبو زهرة، رئيس لجنة رعاية مقابر القدس في الخامس والعشرين
من الشهر الماضي، إلى مقبرة «مأمن الله» التي شرعت إسرائيل في بناء متحف
ضخم على أرضها في بداية العام الجاري، لكنه فوجئ بقرار إسرائيلي بإغلاقها
تماما، ووضع سياج حديدي حولها، وتهديد بمحاكمة كل من يدخلها.
وكان أبو زهرة، قد توجه ذلك اليوم، إلى المقبرة التي أصبحت منذ عام 1948
ضمن الجزء الغربي المحتل من المدينة، لتفقد أحوالها بعد أن فشل بالتعاون
مع «مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية»، في منع طلاب الجامعة العبرية
في القدس من تنظيم حفل على أرضها، وتحديدا في الجزء الذي حولته إسرائيل
إلى حديقة عامة، وأصبح مكاناً نموذجياً لتجمع مثلي الجنس من اليهود. وكان
الحفل قد أقيم، بالفعل مساء الرابع والعشرين من الشهر الماضي، وسط قبور
إسلامية ما زالت ظاهرة في الحديقة، بمناسبة «يوم القدس» أي يوم احتلال
إسرائيل لشرقي المدينة قبل 39 عاما. ومأساة هذه المقبرة بدأت عندما وضعت
السلطات الإسرائيلية اليد عليها وحولت قسما منها إلى حديقة، أصبحت عنوانا
للمثليين، وبني على قبور المسلمين، موقف للسيارات، بالإضافة إلى بنايات
أخرى شاهقة، والجزء الذي بقيت فيه شواهد قبور بارزة، تحول إلى متنزه.
تضم المقبرة رفات اكثر من 100 ألف من القادة التاريخيين ومشاهير الصوفية
وفقهاء وأدباء ومقاتلين وأبناء العائلات المقدسية، واستخدمت منذ أن فتح
المسلمون القدس، وارتبطت بتاريخ المدينة المضطرب ومفاصله الحاسمة، وفيها
عسكر جنود صلاح الدين الأيوبي، عندما استعاد المدينة من الصليبيين.
استدعي مصطفى أبو زهرة المهتم بالقضية للتحقيق، واتهم باقتحام موقع لا
يحق له الدخول إليه، وتزوير المعالم، لأنه رمم بعض القبور والشواهد التي
كانت قد طمست، كما حاول المحققون توجيه اتهام له بسبب مشاركته في ترميم
وتنظيف مقام «الكبكي». وهذا المقام يعتبر رمزا للمقبرة، لكن لافتات
بالعبرية وضعت عليه أخيرا تقول: «دولة إسرائيل ـ دائرة أراضي إسرائيل ـ
ممنوع الدخول إلى هذه المنطقة ـ والفاعل لذلك يتحمل مسؤوليته».
وكانت «مؤسسة الأقصى» قد نظفت المقام في وقت سابق من شهر أبريل (نيسان)
الماضي، في عمل تطوعي حضرناه، أثناء الإعداد لهذا التقرير، وشارك فيه
مئات الفلسطينيين من حاملي الجنسية الإسرائيلية.
وكانت قبة مقام الكبكي قد شكلت طوال قرون، رمزا لمقبرة مأمن الله، وهي قبة
وصفها الرحالة والمستشرقون بأنها «جميلة وفريدة ومثيرة للمشاعر»، ويطلق
المقدسيون عليها (الكبكية) أو (القبقية) حسب اللهجات المحلية، وهو مشتق
من اسم صاحبها المدفون داخلها الأمير علاء الدين ايدغدي بن عبد الله
والمعروف بالكبكي. ويعكس بناء القبة مكانة صاحبها القائد المملوكي ليس
فقط في تاريخ القدس، ولكن دوره في الدولة آنذاك.
من المؤكد انه لم يكن يدور في خلد الأمير الكبكي، انه سيأتي يوم، تنقلب
فيه الأمور بالشكل الذي يحدث الآن، فيتحول مقامه إلى ما يشبه المزبلة.
ورافقْنَا المتطوعين، وعلى رأسهم الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلامية
داخل الخط الأخضر، والذين فتحوا الساتر الحجري ونظفوا القبة المهيبة التي
تضم قبر الأمير الكبكي، وتم إخراج الأوساخ وغسل متطوعون شبان القبة بحماس،
وأغلقوها من جديد.
وقال لنا الشيخ صلاح ونحن في المكان، «لن نترك مقام الكبكي وقبور
المسلمين نهبا للجرافات الإسرائيلية واعتداءات أوباش اليهود عليها، وهي
رسالة لأمواتنا بأننا سنعمل على رفع الظلم عنهم، ورسالة أيضا للمسلمين
والعرب، بان يقفوا معنا من اجل إعادة الاعتبار لجزء من تاريخ العرب
والمسلمين». وتعهد صلاح بإقامة معسكرات عمل متتالية في مقبرة «مأمن الله»
حتى إزالة جميع الأوساخ فيها، وتنظيف كل قبر، وتثبيت كل شاهد، ومواجهة
مشروع «متحف التسامح» الذي بدأت شركة إسرائيلية ـ أميركية إقامته على
قبور المسلمين. وتربط «مؤسسة الأقصى» بين ما تعتبره تسريعا في مخطط تهويد
القدس، وإنشاء «مركز الكرامة الإنسانية ـ متحف التسامح». فمع بداية عام
2000، طرح مخطط لإنشاء هذا المتحف من قبل «مركز فيزنتال» ومقره لوس
أنجليس، ولقي المخطط تشجيعا من أيهود اولمرت، رئيس بلدية القدس آنذاك،
والرئيس الإسرائيلي موشى قصاب، ورئيس الوزراء السلبق ارييل شارون.
ولم يطرح المشروع في البداية ليكون على المقبرة، ولكن ترى «مؤسسة الأقصى»
انه ولحسابات سياسية تندرج في ملف تهويد القدس تغير المقترح، وبخطوات
متسارعة. وأطلقت حملة لجمع التبرعات في أميركا لإقامة هذا المتحف الذي
قدرت تكلفته بأكثر من 200 مليون دولار. واختيرت المقبرة تحديداً لأنها تقع
في المنطقة الرابطة بين غرب القدس وشرقها، وهي بمثابة البوابة الواسعة
لتهويد البلدة القديمة ومحيط المسجد الأقصى، كما ترى مؤسسة الأقصى. وضع
مخططات المتحف مهندس مشهور اسمه فرانك جيري. بتاريخ 24/11/2002 وعقد
احتفالا في ديوان الرئيس قصاب لاطلاق المشروع، تحدث خلاله اولمرت بحماس
قائلاً «سأعمل بأقصى جهدي وفي كل منصب أتقلده حتى يقام متحف التسامح بدون
إعاقات».
وفي يوم 2 مايو (أيار) 2005، وضع آرنولد شوارزنيغر، حاكم ولاية
كاليفورنيا الأميركية، وقصاب، وبحضور كبار رجال الدولة العبرية، حجر
الأساس للمشروع على أرض المقبرة وغلبه الحماس وهو يخاطب المحتفلين
فقال «قبل نحو ثلاثة آلاف سنة وقف الملك سليمان في مكان كهذا حتى يبني
الهيكل ونحن وعلى نفس التقليد من الأمل نقف اليوم هنا، وهذا المتحف سيكون
المعبد ـ الهيكل الذي سيرشدنا».
وأطلق وضع حجر الأساس حملة مضادة من قبل الفلسطينيين الذين لم يستطيعوا
فهم التناقض بين إقامة متحف للتسامح بين الأديان، يقام على مقبرة تخص أحد
هذه الأديان، وهم يعلمون ضمناً خفايا المشروع. وتم إغلاق 15 دونماً من أراضي
المقبرة، وبدأت حفريات، نبشت خلالها قبور المسلمين، وهدمت قبور وشواهد
أثرية.
وفي تحقيق لها عن أعمال الحفريات في المكان، أكدت صحيفة «هارتس» انه تم
اكتشاف نحو 150 هيكلا عظميا أثناء أعمال بناء المتحف، خلال الأسابيع
الماضية. ونقلت الصحيفة عن خبير آثار قوله بان العمال لم يحسنوا التعامل
مع الهياكل العظمية. وقالت «هارتس» ان عاملين في الموقع اخبروا مراسلها،
بأنه تم تحطيم جماجم من الهياكل التي كشفت، وبنت الشركة جدارا بارتفاع
أربعة أمتار حول القبور المنبوشة، وثبتت كاميرات مراقبة، ولا يعرف ما
يدور في الداخل. وقدمت «مؤسسة الأقصى»، التماسا إلى المحكمة العليا
الإسرائيلية، وطالبت باستصدار أمر مستعجل لإيقاف الحفريات الجارية، وأرفقت
بطلبها وثائق تدل على وقفية أرض المقبرة الإسلامية ومساحتها، بالإضافة إلى
صور فوتوغرافية تعرض أعمال الحفريات وانتهاك القبور الإسلامية خلال الأعمال
التي تقوم بها الشركات الإسرائيلية. وأرفقت «مؤسسة الأقصى» في طلبها
المرسوم القضائي الذي أصدره القاضي احمد ناطور، رئيس محكمة الاستئناف
الشرعية في القدس، والذي يمنع ويحرم نبش القبور أو نقلها من مكانها، وان
حرمة الميت كحرمة الحي.
ولم يكن الأمر سهلا في دهاليز المحكمة العليا، وأصدرت بعد نحو ثلاثة شهور،
أمرا احترازيا يمنع العمل في مقبرة «مأمن الله» واستثنت أعمال سلطة الآثار،
وعينت المحكمة رئيس المحكمة العليا المتقاعد القاضي مائير شمجار وسيطا
بين الأطراف لمحاولة التوصل الى حل.
وروى المحامي ضرغام سيف، مدير عام مؤسسة كرامة، قائلاً «لدى دخولنا إلى
ارض المقبرة حيث تعمل الشركات الإسرائيلية رأينا العديد من القبور
الإسلامية والهياكل العظمية الكاملة من جماجم وأيد مدفونة بالطريقة
الإسلامية، باتجاه القبلة وعلى الجهة اليمنى، ناهيك من الكثير من القبور
التي غطيت ولم يسمح لنا بالكشف عنها. كما يبدو أن الأعمال توقفت داخل
المقبرة وتمّ إخلاء الموقع من الآليات الكبيرة ولم يوجد في المكان إلا عدد
قليل من العمال، من ضمنهم عمال لسلطة الآثار شوهدوا لدى قيامهم بأعمال
داخل خيمة أقيمت هناك، منعنا من دخولها، من قبل رجال سلطة الآثار، مدَّعين
أن الأمر القضائي لا يشمل السماح لنا بالدخول لهذه الخيام، ويبدو أن هناك
إخفاء لأمور عظيمة تقوم بها سلطة الآثار بالموقع». ورد مركز «فيزنتال»
والأطراف الإسرائيلية بأدلة وصفتها «مؤسسة الأقصى» بأنها واهية،
لأنها «حاولت أن تنكر قدسية الأرض التي يبني عليها متحف التسامح، بسبب
انها استعملت منذ سنة 1983 كموقف للسيارات، وان القبور مندرسة، وادعت
وجود فتاوى إسلامية بهذا الموضوع، وأرفقت فتوى من سنة 1964 من القاضي
طاهر حماد بهذا الخصوص، الذي أدين بملفات جنائية خلال توليه منصبه،
وفتواه ظلت محل تشكيك من أصحاب الفتاوى الشرعية في البلاد. وادعت الأطراف
الإسرائيلية إمكانية نقل القبور التي اكتشفت وتم نبشها خلال أعمال
الحفريات في بداية مشروع بناء متحف التسامح». ووفقا لمخطط المتحف، فانه
سيضم مسرحا وقاعة للمؤتمرات ومركزا تعليميا ومكتبة، تستخدم جميعا
لنشر «ثقافة التسامح بين الأديان» حسب ما يقول القائمون على المشروع.
وتقدر مساحة مقبرة «مأمن الله»، بأكثر من 200 دونم وقدر المهندسون مساحتها
يوم 14/6/1929 بنحو 137.450.29 م2 وسجلت كوقف صحيح مضبوط، وسجلت كذلك
لدى دائرة الطابو في عهد الانتداب البريطاني، ولكن الآن لم يبق منها
الكثير والسر تكشفه البنايات الشاهقة ومواقف السيارات والحديقة الكبيرة
وغيرها من منشآت أقيمت على ارض المقبرة التي صمد فيها مقام الكبكي طوال
سنوات، وكذلك القبور الأخرى، التي تم تطويقها الآن، لمنع امثال أبو زهرة
والشيخ رائد صلاح وآلاف المتطوعين من الاهتمام بها، والتأثير في استمرارهم
في مواجهة مشروع «متحف التسامح»، الذي تصر إسرائيل على بنائه على رفات
المسلمين.