كتب-خالد عمر عبد الحليم
تنوعت مؤلفات عبدالوهاب المسيري بشكل يوضح طبيعته كمثقف «شامل» لا يقتصر علمه أو إنتاجه الثقافي علي ما درسه وتخصص فيه، وهو الأدب الإنجليزي، بل امتد ليشمل نواحي أخري متعددة.
وتعد موسوعة «اليهود واليهودية» العمل الأشهر للمسيري، إذ وصفها المراقبون بأنها العمل الأول الذي حاول دراسة تاريخ اليهود وثقافتهم بشكل محايد يستبعد التعريفات المنتشرة للظاهرة، والتي تدفع لاتخاذ مواقف إما مؤيدة أو معارضة لليهود، لاسيما أنها تناولت تطور اليهود منذ نشأة الديانة وحتي قيام إسرائيل، وذلك في ٨ مجلدات ضخمة أعطت الموسوعة ثقلا كبيرًا لما تضمه من تحليل علمي للظاهرة اليهودية.
ولم تقتصر مؤلفات المسيري حول «الصهيونية» علي الموسوعة فقط، ولكنها شملت العديد من الكتب التي شكلت إثراء «للمكتبة العربية» ومن بينها «الصهيونية وخيوط العنكبوت»، و«الصهيونية والحضارة الغربية الحديثة»، و«التجانس اليهودي والشخصية اليهودية»، و«انهيار إسرائيل من الداخل» و«مقدمةٌ لدراسة الصراع العربي- الإسرائيلي: جذوره ومساره ومستقبله».
وأكدت مساهمات المسيري الفكرية علي أنه كان مثقفًا حقيقيا، إذ إن غالبيتها تستند إلي مراجع ودراسات مهمة، غير أنه كان «يسبح ضد التيار» بها - حسب الكثير من المثقفين - ليؤكد أنه لم يكن - كآخرين- يستغل الثقافة كتجارة ليتقدم في المجتمع أو ليحقق أهدافا خاصة، بل كان تسعي للوصول إلي الحقيقة بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه.
وقدم المسيري العديد من الأفكار في هذا الشأن، إذ رأي أن إسرائيل تحمل عوامل سقوطها من الداخل وقدّر زمن سقوطها بـ٥٠ عامًا، مشيرًا إلي أن ذلك يرجع لما يعانيه المجتمع الإسرائيلي من «تناقضات» يصعب أن يظل في ظلها متماسكا.
ورصد المسيري العديد من الأزمات في إسرائيل في هذا الإطار، أبرزها - حسب دراساته - العنصرية، ولاسيما ضد اليهود الشرقيين والفلاشا، وأزمة الهروب الجماعي من التجنيد في إسرائيل، وأزمة الهوية التي يعانيها أبناء الجيلين الثاني والثالث في إسرائيل، وزيادة معدلات الهجرة العكسية من إسرائيل، وهو ما يعد «تقويضا» من وجهة نظره لأسس بناء «دولة المهاجرين».
بروفايل .. موسوعة الفكر تطوي صفحتها الأخيرة
كتبت ـ نشوي الحوفي
البداية كانت عام ١٩٣٨ بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة لطفل صغير في عائلة ميسورة الحال من عائلات الطبقة الوسطي، إنه المفكر عبد الوهاب المسيري الذي كان منذ الصبا مولعاً بالقراءة والاطلاع علي كل ما تقع عليه يده من كتب، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من أبناء جيله، ويكبر الصبي وتزداد علاقته بالقراءة توثقاً فيلتحق بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية في العام ١٩٥٥ دارساً بقسم اللغة الإنجليزية بها، والذي تخرج فيه عام ١٩٥٩ .
كانت الرغبة في المزيد من العلم كالنداهة التي تلح عليه ليرحل معها باحثاً ومستزيداً، فكان الترحال إلي الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع الستينيات، حيث التحق بجامعة كولومبيا ليقضي معظم وقته بين أوراق ومؤلفات مكتبتها ينهل منها، حتي استقر علي موضوع رسالة الماجستير التي حصل عليها في العام ١٩٦٤ وكان بعنوان «الأدب الإنجليزي المقارن»، ويستمر الإبحار في عالم اللغة لينهي رسالة الدكتوراه بعنوان «الأدب الإنجليزي والأمريكي المقارن» وحصل عليها عام ١٩٦٩ من جامعة رتجرز بولاية نيوجيرسي الأمريكية.
وكما كان الترحال رغبة في التعلم دافعاً للسفر، كان الحنين للوطن سبباً في العودة مرة أخري لمصر التي التحق عقب وصوله لأرضها بالعمل بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام عام ١٩٧٠ كرئيس لوحدة الفكر الصهيوني والتي استمر في رئاستها حتي عام ١٩٧٥، حين تركها ليتولي منصب المستشار الثقافي للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدي هيئة الأمم المتحدة بنيويورك في الفترة من عام ١٩٧٥ وحتي عام ١٩٧٩ عاد بعدها مرة أخري لمصر وقام بتدريس الأدب الإنجليزي والمقارن بجامعة عين شمس حتي عام ١٩٨٣، سافر بعدها لتدريس نفس المادة في جامعتي الملك سعود ثم جامعة الكويت ولتطول غربته لعام ١٩٨٨ حين قرر العودة مرة أخري لجامعة عين شمس التي عمل بها كأستاذ غير متفرغ. في العام ١٩٩٣ التحق دكتور عبد الوهاب المسيري بالعمل مستشاراً أكاديمياً للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، كما اختير لعضوية مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بواشنطن منذ عام ١٩٩٧ وحتي وفاته.
وشغل المفكر عبد الوهاب المسيري الساحة الفكرية العربية والغربية بمؤلفاته الباحثة المنقبة في مجالات عدة، إلا أن أشهر تلك المؤلفات علي الإطلاق كان موسوعته التي حملت عنوان «اليهود واليهودية والصهيونية» وخرجت للمكتبة العربية في ثمانية مجلدات كان قد بدأ العمل بها منذ العام ١٩٧٢ وانتهي منها في العام ١٩٩٩، وقد صنف بعدها كواحد من أبرز المؤرخين العالميين في هذا المجال، حيث قدمت الموسوعة نظرة جديدة بانورامية وموضوعية في ذات الوقت عن الظاهرة الصهيونية في العالم بأسلوب اعتمد علي التحليل العلمي لها، كما قدم للمكتبة العربية عدداً آخر من الكتب من أشهرها «إشكالية التحيز»، «الجمعيات السرية في العالم»، «فكر حركة الاستنارة وتناقضاته»، و«رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر» وهو المؤلف الذي عرض فيه لسيرته الذاتية وقدمه للقارئ في العام ٢٠٠١.
الطريف أن المفكر عبد الوهاب المسيري قدم عدداً من قصص الأطفال حاز عنها علي جائزة سوزان مبارك لأدب الطفل في عامي ٢٠٠٠، و٢٠٠٣ ومن بين هذه القصص «نور والذئب الشهير بالمكار»، و«سندريللا وزينب هانم خاتون»، و«رحلة إلي جزيرة الدويشة»، ولم تكن المكتبة العربية هي وحدها التي استفادت من فكر عبد الوهاب المسيري حيث تُرجمت بعض أعماله إلي الإنجليزية والفارسية والتركية والبرتغالية.
في عام ٢٠٠٥ انضم الكاتب عبد الوهاب المسيري لحركة «كفاية» السياسية المعارضة، وشارك عبر عضويته بها في العديد من الأحداث والندوات التي برر فيها ضرورة التغيير السياسي في مصر. وفي يناير من عام ٢٠٠٧ اختير المسيري منسقاً عاماً للحركة من قبل أعضائها، بعد انتهاء المدة المحددة لمنسقها الأول جورج إسحق.
بدأت علاقة المفكر عبد الوهاب المسيري بالمرض في العام ٢٠٠١ حيث خضع لجراحة في الظهر اكتشف الأطباء خلالها إصابته بسرطان الدم، مما اضطره للخضوع لجلسات علاج بعد الجراحة داوم عليها حتي وفاته، كما سافر إلي الولايات المتحدة في العام الماضي وأجري عملية جراحية أخري لزرع النخاع. وكان الفقيد قد تقدم بطلب لوزارة الصحة المصرية لتحمل نفقات علاجه التي كلفته كل ما يملك منذ بداية رحلته مع المرض، إلا أن طلبه لم يتم الرد عليه، وهو ما دفع بالأمير عبد العزيز بن فهد إلي إعلان تحمله كافة نفقات علاجه سواء داخل مصر أو خارجها.
ويرحل عبد الوهاب المسيري المفكر والعالم والكاتب وقبل كل هذا الإنسان المتواضع الذي ما فتئ يمنح خبرته وتجاربه وإجاباته لكل من يلجأ إليه.
«تجاهلت» الحكومة علاجه.. فداواه أمراء سعوديون بعد مقال في «عكاظ»
كتب - أسامة المهدي
ودعت مصر المفكر الإسلامي الدكتور عبدالوهاب المسيري، بعد رحلة علاج استمرت ٦ سنوات، تجاهلت خلالها الحكومة المصرية العديد من طلبات أصدقائه المقربين من النظام لعلاجه علي نفقة الدولة، بدعوي أن الأمر لايزال محل الدراسة.
ولم تشفع المؤلفات المهمة للمسيري سوي عند الأمير السعودي عبدالعزيز بن فهد، حيث تبرع بعلاجه علي نفقته الشخصية بمبلغ وصل إلي مليوني جنيه، مما أثار أوساط السياسيين والمثقفين في مصر علي الحكومة، بسبب ما وصفوه بـ«المماطلة» و«الجحود» في علاج أكبر مفكري الوطن العربي صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.
وكانت «المصري اليوم»، قد التقت المسيري فور عودته من رحلة علاجية من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أوضح قصته مع الحكومة المصرية ومسألة علاجه علي نفقة الدولة.
كانت البداية حين قدم الدكتور عبدالوهاب المسيري طلباً إلي وزارة الصحة عن طريق الدكتور أسامة الباز، المستشار السياسي للرئيس مبارك، بسفره إلي الخارج لإجراء عملية زرع نخاع بسبب تفشي السرطان فيه، لكنه فوجئ بأن الطلب سيدرس أولاً، بعدها ستقرر اللجنة المختصة الموافقة أو لا، واستمرت اللجنة تدرس الطلب حتي عام ٢٠٠٦.
ولم ينقذ المسيري وقتها سوي مقال كتبه الدكتور محمد الحمد، ونشر في صحيفة «عكاظ» السعودية، حيث تحدث فيه عن رفض الحكومة المصرية علاج عبدالوهاب المسيري، وبعدها فوجئ المسيري بمكتب الأمير عبدالعزيز بن فهد يتصل به ليخبره بأن عليه استقلال الطائرة الخاصة بالأمير، لتوصيله إلي الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال علاجه علي نفقته الشخصية، وبعد تردد من المسيري وافق بسبب انتشار المرض في جسده.
اللافت أن المسيري وجد استقبالاً رائعاً في مطار واشنطن من مسؤولي السفارة السعودية هناك، في غياب تام لأي مسؤول سياسي أو دبلوماسي مصري.
ولم ينته اهتمام الأمراء السعوديين بدعم رحلة علاج المسيري، ففي عام ٢٠٠٧ اتصل بالمسيري مكتب الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وأكد له أن الأمير سيتحمل تكاليف متابعة رحلة العلاج، وأمام إصرار الأمير سلطان ورجاء الأمير عبدالعزيز، وافق المسيري وسافر مرة أخري إلي أمريكا لمتابعة رحلة علاجه، خاصة أن مرض السرطان يحتاج إلي متابعة مستمرة.
وما زاد علي المسيري مرضه - حسب حواره السابق لـ«المصري اليوم» - هو تجاهل المسؤولين في الحكومة سواء في أمريكا أو في مصر له، مؤكداً أنه لم يتصل به أحد، مما اعتبرها إهانة له ولمكانته العلمية والثقافية، خاصة مع حجم الاستقبال الجماهيري الذي وجده في مطار القاهرة فور وصوله.
ورفض المسيري أي ربط بين رفض الحكومة علاجه علي نفقة الدولة، وتوليه منصب منسق عام لحركة «كفاية»، حيث أوضح في أكثر من لقاء صحفي أن طلبه الحكومة جاء قبل تولي منصب المنسق العام بأكثر من ثلاث سنوات