تعقيب على مشروع تنمية شمال سيناء :
أشرنا من قبل إلى أن هذا المشروع أثار جدلا كثير وخاصة من الناحية السياسية وكذلك من الناحية التنموية والناحية البيئية . ونبدأ أولا فى تفهم طبيعة الجدل السياسى المثار حول هذا المشروع ونلخصه فيما يلى :
نجد تاريخيا أن تيودورهيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ، اهتم بإمكانية توصيل مياه النيل إلى سيناء ثم إلىفلسطين قبل أن يبدأ الصهاينة فى سرقة أراضيها وإنشاء الدولة الإسرائيلية ، وقد عرضهيرتزل بالفعل أثناء زيارته لمصر عام 1903 دراسة فنية لنقل مياه النيل عبر قناةالسويس إلى سيناء ، ولكن السلطات المصرية والبريطانية أهملت عرضه فى ذلك الوقت .
وبالرجوع إلى تقرير الإجتماع الذى تم عقده فى مسقط وعمان فى الفترة من 17إلى 19 من إبريل عام 1994 ، حيث حضر هذا الإجتماع ممثلون من 55 دولة بينهم ممثلينمن إسرائيل وتركيا ، لمناقشة موارد مياه الشرق الأوسط .. أشار التقرير إلى أن تركياهى البلد الوحيد الذى يمتلك فائضا كبيرا من المياه ، وأشار كذلك إلى اقتراح قدمتهتركيا بلد المنبع لنهرى دجلة والفرات ، تقترح فيه وقف تدفق المياه إلى نهر الفراتوتحويلها إلى أنبوب ضخم يصل دول الخليج وإسرائيل لحل مشكلة ندرة المياه فى تلكالدول ، وسبب هذا الإقتراح قلقا شديدا لكل من سوريا والعراق واعترضتا رسميا عليه ،فى حين أعلن وزير الزراعة الإسرائيلى رفائيل إيتان فى ذلك الوقت : أن استيرادإسرائيل للمياه من تركيا سوف يكون مكلفا بالنسبة لإسرائيل .
ويقول الدكتورإليشا كالى الرئيس الأسبق لهيئة تخطيط موارد المياه فى إسرائيل (TAHAL ) فى دراسةنشرها عام1974 أن نهر النيل هو المورد الأجنبى المفضل لإمداد قطاع غزة بالمياه ،وأكد ذلك فى كتاب منشور له عام 1978 (طبعة ثانية) بعنوان The struggle for water ، ثم فى كتابه المنشور عام 1986 بعنوان Water in Peace حيث ألحق به بحثا كان قد نشرهفى نفس العام يشمل خريطة توضح ترعة السلام وهى تتفرع من نقطة من فرع دمياط بدلتامصر .
ومن المعروف أن الرئيس السابق أنور السادات شرع فى التخطيط لمشروعترعة السلام بعد أن أعلن فى حيفا أنه سوف ينقل مياه النيل لصحراء النقب فى إسرائيل ، ثم أكد بعد ذلك أن ترعة السلام سوف تصل إلى القدس ..
وفى خطاب بعثهالسادات إلى مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق قال فيه : " حيث أننا شرعنا فىحل شامل للمشكلة الفلسطينية ، فسوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصرى بإسمملايين المسلمين كرمز خالد وباق على اتفاق السلام ، وسوف تصبح هذه المياه بمثابةمياه زمزم لكل المؤمنين أصحاب الرسالات السماوية فى القدس ودليلا على أننا رعاةسلام ورخاء لكافة البشر" . وتم نشر نص هذا الخطاب فى مجلة أكتوبر الأسبوعية لسانالحزب الوطنى الحاكم فى عددها بتاريخ 16 يناير عام 1979 تحت عنوان "مشروع زمزمالجديد " .. وقالت المجلة أن السادات أعطى بالفعل إشارة البدأ لحفر ترعة السلام بينفارسكور (تقع على قرع دمياط) وبين التينة (تقع على قناة السويس شمال الإسماعيلية)حيث تقطع مياه الترعة بعد ذلك قناة السويس خلال ثلاثة أنفاق لتروى نصف مليون فدان .. وأن السادات طلب عمل دراسة جدوى دولية لتوصيل المياه إلى القدس ، ولما اهتاجالرأى العام ، تراجع السادات شكليا عن فكرة توصيل المياه إلى القدس دون تصريح رسمىمنه بذاك ..
وقد أعلن بعد ذلك منبر شاش محافظ شمال سيناء الأسبق فى جريدةالأهرام اليومية عدد 22 أغسطس 1993 : " أن ترعة السلام العمود الفقرى للتنميةالزراعية فى شمال سيناء سوف تصل إلى رفح ..!! ." ، هذا رغم أن المشروع المعلن علىالشعب المصرى حتى الآن هو وصوله وتوقفه عند وادى العريش على بعد 40 كم من حدود مصرالدولية مع قطاع غزة (إسرائيل) .. ويجب فى هذا المقام ربط ماطلبته منظمة التحريرالفلسطينية من توحيد مشاريع التنمية الزراعية فى كل من رفح مصر ورفح فلسطينوالإستفادة بمياه ترعة السلام وموافقة الحكومة الإسرائيلية على ذلك مبدئيا بماأعلنه منير شاش .
وقد أعلن حسنى مبارك فى مؤتمر صحفى انعقد فى القاهرة فى 20نوفمبر 1996 افتتاح النفق الثالث تحت قناة السويس وقال : أنها لحظة تاريخية فى حياةمصر ،ننطلق منها إلى خريطة سكانية جديدة ندخل بها القرن الواحد والعشرين .
والتساؤل المطروح الآن : هو لماذا فكر السادات فى إرسال مياه النيل إلىاسرائيل من حصة مصر المائية ، ومصرتعانى مجاعة مائية ، وهمها الرئيسى هو توفير المياهبأى شكل من الأشكال ، سواء بإعادة تدوير مياه الصرف الملوثة بكافة السموم أو بإقامةمشروعات فى أعالى النيل منها مشروع قناة جونجلى ، الذى توقف نتيجة ثورة متمردى جنوبالسودان .. هل كان ذلك استجابة من السادات لضغوط أمريكا وإسرائيل التى لانعلم عنهاشيئا .. أم أنه رد فعل طبيعى لما قامت به إسرائيل من دعم صريح بالقوات والخبراء العسكريين لإثيوبيا فى السبعينيات من القرن الماضى لمساعدة حكومة هيلاسيلاسى ثمحكومة منجستو فى معاركهما ضد الصومال وفى مواجهتهما لإنتفاضات متمردى إريتريا ..وقد يكون ذلك إشارة من إسرائيل للسادات يأن فى قدرة إسرائيل حث إثيوبيا على تقليلحصة مصر من مياه النيل التى ترد لها كل عام من الهضبة الإثيوبية .
ولاحظنا فى عصر مبارك أن الخبراء الإسرائيليون يساعدون إثيوبيا فى تصميم وإنشاء 40 سدا على النيل الأزرق ، وهذه إشارة أخرى لمبارك لايمكن أن يتجاهلها .. وأرسلت مصر احتجاجا رسميا لإسرائيل على نشاط خبرائهم فى إثيوبيا لإنشاء السدود ونظم الرى الجديدة التى سوف تؤدى إلى تقليل تدفق مياه النيل إلى مصر .
كما احتج حسن البشير رئيس السودان على زيارة جون قرنق John Garang زعيم حركة التمرد فى جنوب السودان إلى إسرائيل عام 1994 ، مما يشير إلى هناك تعاونا بشكل أو بآخر بين تلك الحركة وإسرائيل ، ونعلم أن مشروع قناة جونجلى يقع فى المنطقة التى يسيطر عليها جون قرنق ، وكان قد تم تنفيذ معظمه ثم توقف بسبب هذا التمرد .. وهذا المشروع عندما يتم تنفيذه بالكامل سوف تزيد حصة المياه المصرية بحوالى 4 مليار متر مكعب مياه عذبة ومثلها أيضا للسودان .
ومع افتتاح مبارك للنفق الثالث لترعة السلام تحت قناة السويس كما أشرنا من قبل فى 20 نوفمبر 1996 ، علقت الإذاعة البريطانية على لسان بعض الخبراء المصريين بالآتى : أنه إذا كان الغرض من النفق الأول هو إمداد شمال سيناء بالمياه الكافية اللازمة للتنمية الزراعية ، وأن النفق الثانى طبقا لأصول العمل الهندسى هو احتياطى للنفق الأول للطوارئ ولأعمال الصيانة .. فما هو الغرض من النفق الثالث إلا إذا كان مخصصا لإمداد قطاع غزة واسرائيل بالمياه تحت الإشراف الفنى للحكومة الإسرائيلية ..!! . وأقول إضافة لذلك أنه فى المرحلة الخامسة للمشروع التى تسمى Block 5 عند وادى العريش سوف يتم رفع المياه بمحطة طلمبات عملاقة إلى منسوب أعلى من 100 متر فوق سطح البحر لتصل إلى الوادى بتكلفة عالية .. فى حين أن الأمطار والمياه الجوفية فى ذلك الوادى كما يقول الخبراء تكفى لإنتاج ماينتجه هذا الوادى حاليا ثلاث مرات على الأقل وتكفى احتياجات السكان فى تلك المنطقة ثلاث مرات على الأقل .. فما هو المقصود بهذه المرحلة من المشروع مع عدم جدواها الإقتصادية إلا إذا كان هناك إلتزاما استراتيجيا لانعلمه بحتمية إمداد إسرائيل بمياه النيل ومن حصة مصر التى تعانى فقرا فى المياه يتزايد مع الأيام .
من قراءاتى العديدة ومن مصادر مختلفة عن أطماع إسرائيل فى مياه النيل ، وصلت إلى قناعة كافية أن مشروع ترعة السلام وتنمية شمال سيناء سينتهى فى مرحلة من مراحله كأحد أهدافه الغير معلنة إلى إمداد إسرائيل بما يكفيها من مياه النيل على حساب الشعب المصرى دون إرادة منه .. وسوف يقودنا حكامنا من خلال تخديرنا بتصريحاتهم خطوة خطوة إلى هذا الواقع الأليم فى يوم قد يكون قريبا نرجو أن لايحدث أبدا .