فتوى مفتي المملكة العربية السعودية
سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم
يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يرحمه الله
لا ريب في خبث الدخان ونتنه ، وإسكاره وتفتيره ، وتحريمه بالنقل الصحيح ، والعقل الصريح ، وكلام الأطباء المعتبرين ، أما النقل الصحيح فقول الله تعالى : ) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث( وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " ولمسلم : وكل مسكر حرام ، وروى أبو داود والترمذي وحسنه عن عائشة مرفوعاً " كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه فملئ الكف منه حرام " وكل من الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة دال على تحريمه فانه خبيث مسكر تارة ، ومفتر أخرى لا يماري في ذلك إلا مكابر للحس والواقع ولا ريب أيضا في إفادتها تحريم ما عداه من المسكرات والمفترات وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : نهى الرسول عن كل مسكر ومفتر ، وقال الحافظ الذيني العراقي إسناده صحيح ، وصححه السيوطي في الجامع الصغير وفيه من إضاعة المال واستهلاك المبالغ الطائلة المسببة لضلع الدين الحامل على بيع كثير ممن ضروريات الحياة في هذا السبيل مالا يسع أحداً لإنكاره
وفي الصحيحين عن النبي أنه قال : " إن الله حرم عليكم : عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعا وهات ، وكره لكم : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " يوضحه ما سنذكره من كلام العلماء من أرباب المذاهب الأربعة فمن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية الشيخ محمد العيني ذكر في رسالته : تحريم التدخين من أربعة اوجه
أحدها : كونه مضراً للصحة بإخبار الأطباء المعتبرين وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقاً
ثانيها : كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم المنهي عن استعمالها شرعاً لحديث أحمد عن أم سلمه نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر وهو مفتر باتفاق الأطباء وكلامهم حجة في ذلك وأمثلة باتفاق الفقهاء سلفاً وخلفاً
ثالثها : كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه ، وعلى الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها بل وتؤذي الملائكة المقربين ، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن جابر مرفوعا " من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته " ومعلوم أن رائحة التدخين ليست أقل كراهية من رائحة الثوم والبصل ، وفي الصحيحين أيضا عن جابر رضي الله عنه أن الملائكة تتأذى مما تتأذى منه الناس " وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام انه قال : " من آذى مسلما فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله " رواه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه بإسناد حسن .
رابعاً : كونه سرفا إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر بل فيه الضرر المحقق بإخبار أهل الخبرة .
وقد نهى الله تعالى عن المسكر ، وإن قيل انه لا يسكر فهو يخدر ويفتر أعضاء شاربه الباطنة والظاهرة والمراد بالاسكار مطلق تغطيه العقل وإن لم يكن معه الشدة المطربة ، ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة ، وإن لم يسلم أنه يسكر فهو يخدر ويفتر ، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة أن رسول الله r " نهى عن كل مسكر ومفتر " قال العلماء : المفتر ما يورث الفتور والخدر في الأطراف ، وحسبك بهذا الحديث دليلاً على تحريمه ، وأنه يضر بالأبدان والروح ويفسد القلب ، ويضعف القوى ويغير اللون بالصفرة .
والأطباء مجمعون على انه مضر ، ويضر الأبدان والمروءة والعرض والمال لأن فيه التشبه بالفسقة لأنه يشربه غالباً إلا الفساق والأنذال ، ورائحة فم شاربه خبيثة .
ومن فقهاء الحنابلة : الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله أرواحهم .. قال في أثناء جوابه على التنباك بعدما سرد نصوص المسكر وذكر كلام أهل العلم في تعريف الاسكار ما نصه
وبما ذكرنا من كلام رسول الله وكلام أهل العلم ، يتبين لك تحريم التتن الذي كثر في هذا الزمان استعماله ، وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة اسكاره في بعض الأوقات ، خصوصاً إذا أكثر منه أو أقام يوماً أو يومين لا يشربه ثم شربه فانه يسكر ويزيل العقل ، حتى أن صاحبه يحدث عند الناس ، ولا بذلك نعوذ بالله من الخزى وسوء البأس ، فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول من الناس إذا تبين له كلام الله وكلام رسوله في مثله من المسائل ، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى وزجر وتصديقه فيما أخبر .
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله عن التنباك بقوله : الذي نرى فيه التحريم لعلتين :
أحدهما : حصول الاسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه أو أكثر وإن لم يحصل اسكار حصل تخدير وتفتير .
وروى الإمام أحمد حديثا مرفوعاً أنه " نهى عن كل مسكر ومفتر " .
والعلة الثانية : أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده واحتج العلماء بقوله تعالى : ) ويحرم عليهم الخبائث ( وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه ، كالجعل لا يستخبث العذرة .
ومن فقهاء الشافعية الشيخ الشهير بالنجم الغزي الشافعي قال ما نصه : والتوتون الذي حدث وكان حدوثه بدمشق سنه خمس عشر بعد الألف يدعي شاربه أنه لا يسكر وإن سلم له فانه مفتر وهو حرام .. لحديث أحمد بسنده عن أم سلمه قالت : نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر قال : وليس من الكبائر تناوله المرة والمرتين ، أي بل الإصرار عليه يكون كبيرة كسائر الصغائر ، وقد ذكر بعض العلماء : إن الصغيرة تعطي حكم الكبيرة بواحدة من خمسة أشياء :
الإصرار عليها
التهاون بها وهو الاستخفاف وعدم المبالاة بفعلها
الفرح والسرور بها
التفاخر بها بين الناس
صدورها من عالم أو ممن يقتدي به
وأجاب الشيخ خالد بن احمد من فقهاء المالكية بقولة : لا تجوز إمامة من يشرب التنباك ، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر .
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر الشيخ : احمد السنهوري البهوتي الحنبلي ، وشيخ المالكية : إبراهيم اللقاني .
ومن علماء المغرب : أبو الغيث القشاش المالكي .
ومن علماء دمشق : النجم الغزي العامري الشافعي .
ومن علماء اليمن : إبراهيم بن جمعان ، وتلميذه : أبو بكر الأهدل .
ومن علماء الحرمين: المحقق عبد الملك العصامي وتلميذه محمد بن علان " شارح رياض الصالحين " والسيد عمر البصري .
وفي الديار الرومية : الشيخ محمد الخواجة ، وعيسى الشهاوي الحنفي ، ومكي بن فروخ ، والسيد سعد البلخي المدني ، ومحمد البرزنجي المدني الشافعي ، كل هؤلاء من علماء الأمة وأكابر الأئمة أفتوا بتحريمه ونهوا عنه وعن تعاطيه .
العقل الصريح
فلما علم بالتواتر والتجربة والمشاهدة مما يترتب على شاربه غالبا من الضرر في صحته وجسمه وعقله ، وقد شوهد موت وغش وأمراض عسرة كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف ، وغير ذلك مما يحصل به القطع العقلي أن تعاطيه حرام فان العقل الصريح كما يقضي ولابد بتعاطي أسباب الصحة والحصول على المنافع كذلك يقضي حتما بالامتناع من أسباب المضار والمهالك والمبالغة في مباعدتها ، لا يرتاب في ذلك ذو لب ألبته ، ولا عبرة عمن استولت الشبهة والشهوة على أداة عقله ، فاستعبدته وأولعته بالأوهام والخيالات حتى بقى أسيراً لهواة مجانبا أسباب رشده وهداه .
كلام الأطباء
فإن الحكماء الأقدمين مجمعون على التحذير من ثلاثة أشياء ومتفقون على ضررها :
النتن : وهو الروائح المستخبثة بجميع أجناسها وأنواعها
الغبار
الدخان : وكتبهم طافحة بذلك
وأما المتأخرون منهم الذين أدركوا هذا النبات الخبيث ، فنلخص ما ذكروه من أضراره وما اشتمل عليه من الأجزاء والعناصر التي نشأت عنها أضراره الفتاكة وهذا ملخص ما ذكروه:
قالوا : هو نبات حشيش مخدر مر الطعم ، وبعد التحقيق والتجربة ظهر أن التبغ بنوعيه التوتون والتنباك من الفصيلة الباذنجانية التي تشتمل على النباتات السامة كالبلادونا والبرش ، والبنج وهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر ، ومنه مادة حريفة تسمى نيكوتين.
قالوا : وهي من أشد السموم فعلا ، وله استعمالات :
استعماله مضغا بالفم وهو اقبح استعمالاته وأشدها ضرراً وهو من المخدرات القوية ، فتسري مواده السامة في الأمعاء سريعاً وتحدث تأثيراً قوياً في الأعصاب البدنية .
استعماله استنشاقا مسحوقا مع أجزاء منبهة ، وهو مضر أيضا ، لاحتوائه على مواد سامة .
استعمال تدخينا عن طريق السيجارة وهي أعظم أدوات التدخين لأن الدخان يصل إلى الفم حاراً ، وعن طريق النارجيلة والقصبة المعروفة بالغليون .
وقد ثبت الأطباء له مضاراً عظيمة ، وقالوا أنها تكمن في الجسم أولا ، ثم تظهر فيه تدريجياً ، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق التنباك المحترقة يحتوي على كمية وافرة من المادة السامة هي النيكوتين فإذا دخل الفم والرئتين أثر فيهما تأثيراً موضعياً وعمومياً لأنه عند دخوله الفم تؤثر المادة الحريفة السامة التي في الغشاء المخاطي فتهيجه تهيجا قويا وتسيل منه كمية زائدة من اللعاب وتغير تركيبه بعض التغيير بحث تقلل فعله في هضم الطعام ، وكذلك تفعل في مفرز المعدة كما فعلت في مفرز الفم ، فيحصل حينئذ عسر الهضم ، وعند وصول الدخان إلى الرئتين عن طريق الحنجرة تؤثر فها المادة الحريفة ، فتزيد مفرزها وتحدث فيهما التهابا قويا مزمنا ، فيتهيج السعال حينئذ لاخراج ذلك المفرز الغزير الذي هو البلغم ، ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين الصدرية ، وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين الكريهة الرائحة يجتمع مثله على القلب فيضغط على فتحاته ويصد عنه الهواء فيحصل حينئذ عسر التنفس ، وتضعف المعدة ويقل هضم الطعام ، ويحصل عند المباشرة له للذي لم يعتده دوار وغثيان وقيء وصداع وارتخاء العضلات ، وهي الأعصاب ثم سبات وهي كناية عن حالة التخدير الذي هو من لوازم التبغ المتفق عليه وذلك لما يحويه من المادة السامة ، ومن اعتاده حصل عنده من فساد الذوق وعسر الهضم وقلة القابلية للطعام مالا يخفي ، والإكثار منه يفضي إلى الهلاك إما تدريجيا ، وإما في الحال .. ومن مضاره تخفيض كريات الدم ، وتأثيره على القلب بتشويش انتظام ضرباته ، ومعارضته القوية لشهية الطعام ، وانحطاط القوة العصبية عامة ، ويظهر هذا بالخدر والدوار الذي يحدث عقب استعماله لمن لم يألفه .
ومنها إحداث الجنون المعروف بالتوتوني وهو أن من يتركبه ممن اعتاد استعماله يختل نظام سيره في أعماله وأشغاله حتى يدخنه ، فإذا دخنه سكن حاله .
وقد ذكر جمع من أكابر العلماء جهابذة الأطباء أن من العقل فضلا عن الشروع وجوب اجتناب التدخين حفاظا للصحة ودفعاً لداوعي الضعف الجالب للهلاك والدمار ، وخصوصا ضعيف البنية ، وكبير السن الذي ليست عنده قوة لمكافحة الأمراض وأصحاب المزاج البلغمي ، ولذلك يتركه كثير من الناس خوفاً من ضرره وكراهية لرائحته ، وقد يعلقون طلاق نسائهم على العود إليه ، يريدون بذلك تركه نهائيا ، فإذا حمل إليهم وقت الحاجة إليه لم يستطيعوا الأعراض عنه أبداً بل يقبلون عليه بكلياتهم كل الإقبال ولو طلعت نساؤهم فله سلطان عظيم على عاشقيه ، وتأثير على العقل وذلك أن شاربه يفزع إلى شربه إذا نزل به مكدر فيتسلى ، ويذهل العقل بعض الذهول فيخف حزنه ، والله أعلم .