فيها عشرات القتلي من أجل (رغيف عيش)؟، وأصبح طابور العيش أحد المعالم السياحية التي يمكن إدراجها علي قائمة أي رحلة سياحية قادمة لرؤية أحفاد الفراعنة وهم يقفون بالساعات للحصول علي عشرة أرغفة من المفروض طبقا لرؤية أصحاب القرار - إن هذه الأرغفة هي (كوتة) أسرة مكونة من خمسة أو سبعة أفراد.
طابور العيش الذي أعادنا إلي عصر المماليك.. ليس فقط في أيام المجاعات ولكنه عودة لعصر سياسي بكل تفاصيله.. فأصحاب القرار هم من يحتكرون ومن هو من المفروض أن يعاقب هو من يوزع علي (حرافيشه) كل السلع التي تختفي ثم تظهر فجأة وبأسعار خيالية ويجمع منها المليارات ثم نعرف أنه مجرد (حرفوش) للمملوك الفلاني. وتشهد الساحة صراعات دموية بين المماليك الكبار ونشاهد الحرافيش تخوض هذه المعارك بالوكالة.. سلع يتم احتكارها. أراض يتم تسقيعها.. مناصب يتم شراؤها.. والكل لا يدفع (سحتوتا) من جيبه وحتي كبار هؤلاء المماليك لا يدفعون.. ولماذا يدفعون؟.. الحرافيش موجودون: ضرائب.. جباية.. اتاوات.. وكله بالقانون هم من يضعونه.. وهم من يطبقونه.. وهم من يجني الأرباح.
الوطن الغارق مثل العبارة حوله أصحاب القرار إلي خريطة مشوهة تنضح بالفقر.. تتزين بالمرض تنفجر ألما.
أهم تضاريس هذا الوطن هو ذلك الفقر الذي عشش وسكن داخل النفوس حتي أصبح سلوكا عاما ليس في المعيشة ولكن في التعامل حتي وصلنا إلي (حد الفقر الأخلاقي).
ورغم أن كل التقارير الدولية تؤكد تزايد معدلات الفقر في مصر إلا أن وزير التخطيط يري أن المصري يمكن أن يعيش بمرتب 167 جنيها ولا يعتبر فقيرا.
ولا نعلم هل يعلم الوزير أم لا أن التقارير الدولية تري مثلا أن هناك 14 مليون مصري فقراء؟ وأن هناك مثلا 4 ملايين لا يجدون قوت يومهم وأن أغلب هؤلاء الفقراء من صعيد مصر حيث وصلت نسبة الفقراء هناك إلي 35% من الشعب المصري.
هذا الفقر جعل اكثرمن 3% من الشعب المصري ينفق أقل من خمسة جنيهات يوميا.
أحد هذه التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة يؤكد أن 25% من سكان أسيوط لا يجدون قوت يومهم أي أنهم من معدومي الدخل.. التقرير ايضا ذكر أن محافظة المنوفية هي الاكثر فقرا بين محافظات الوجه البحري فيها 7.3 لا يجدون قوت يومهم.
إن هؤلاء الفقراء لا يعرفون اللحوم والأسماك فأكثر من 51% من فقراء مصر يأكلون هذه الاشياء حسب الظروف كما أن 33% من هؤلاء الفقراء لا يشترون الفواكه ويكتفي 59% منهم بوجبتين في احسن الأحوال ويعتمد 61% من هؤلاء الفقراء علي الفول والعدس.
أما الجانب الآخر من نهر الوطن فإن ثروات اصحابه توحشت وانتقلنا من مرحلة 'الثراء الوقح إلي (الثراء المتوحش). هذا الثراء الذي اصبحنا للأسف لا نستطيع مقارنته بثراء الاقطاعيين قبل ثورة يوليو.. فالتاريخ لم يدلنا علي شواهد تشبه ما حدث في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية من توحش هذه الثروات وأصحابها.
فنحن أمام 20% يمتلكون اكثر من 80% من ثروات البلد بينما لدينا 80% من الشعب يملكون 20% من الثروات.
والأكثر اثارة للدهشة أن هناك 1% من هؤلاء الأغنياء يمتلكون 50% من حجم هذه الثروات بينما يشترك 99% من هؤلاء الأثرياء في ملكية 50% من هذه الثروة.
إن خريطة الفقر في المقابل مرعبة وهي للأسف لا تؤثر في توجهات تلك المجموعة التي (اختطفت) البلاد وتذهب بها إلي المجهول.
فماذا يعني انهم يعلمون أن 762 قرية من القري الألف الأشد فقرا تقع في ثلاث محافظات هي المنيا وأسيوط وسوهاج.
إن اجمالي 39% من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر طبقا لتقديرات التقارير الحكومية بينما ترتفع التقارير الدولية بهذه النسبة إلي 43%.
ولأنها حكومة (كريمة) فقد آثرت ألا تحرمهم من شيء فيجب ألا يكون هناك شعب فقير ويتمتع بالصحة فهذا يتناقض مع منطق هؤلاء الأغنياء.
خريطة المرض في مصر اكثر رعبا فحالتنا يمكن تلخيصها في كلمة واحدة (الانعاش).. فنحن شعب نحتل رأس قوائم العديد من الأمراض التي من المفروض انها اختفت من العديد من الدول المتخلفة.
إننا مثلا نحتل مرتبة متقدمة في عدد مرضي السرطان علي مستوي العالم وتؤكد الاحصاءات ان هناك 100 ألف شخص ينضمون لقائمة مرضي السرطان سنويا.
إن لدينا ايضا أعلي معدلات الاصابة بالبلهارسيا في العالم حيث يصاب بها 4% من سكان الصعيد، كما أن معدلات الاصابة بارتفاع ضغط الدم ارتفعت إلي 26%.
احصائيات تؤكد أن 45% من حالات الوفاة في مصر كانت نتيجة الاصابة بأمراض القلب وعلي رأسها الشريان التاجي.
ومن الواضح أن قلوب المصريين أجهدتها الهموم والأزمات.
أما المرض الاكثر شراسة بعد السرطان فهو أمراض الكبد التي تؤكد التقارير اصابة 30% من المصريين بها.
لدينا ايضا سرطان المثانة الذي تفوق معدلاته 200 مرة المعدلات العالمية.
وهناك 5.3 مليون مصري مصابون بأمراض السكر 10% منهم فوق 20 سنة و10% من المصريين مصابون بأمراض حساسية الأنف والعين والجلد بسبب عوادم السيارات ولدينا 25%من سكان المحروسة مصابون بأمراض الانيميا. وهناك 120 ألف مريض بالفشل الكلوي ويزيدون بنسبة 25% سنويا وربما كل هذه القائمة من الأمراض هي التي جعلت 50% من المصريين مصابين بالاكتئاب.
إن هذا الوطن مازال يرسل اشارات استغاثة تنذر بأن الانهيار أو الانفجار علي بعد خطوات قليلة.
فخروج الآلاف للتظاهر بسبب اختفاء الخبز فالذين قطعوا الطريق الدولي في البرلس اشارة شديدة اللهجة تقول إن الأطراف إذا التهبت فإن هذا يعني أن الجسد علي شفا (الموت السريري).
ققبلها كانت الفيوم ترسل هي الأخري جرس انذار من 3 آلاف مواطن خرجوا بعربات الكارو وقطعوا الطريق المؤدي لبحيرة قارون.
إن هذه التظاهرات لا تؤشر فقط علي أن الناس قد فاض بهم الكيل فلم يخفهم قانون الطوارئ أو حتي الإرهاب.. لأن هناك مثلا شعبيا يلخص هذه الحالة يقول: يا واخد قوتي يا ناوي علي موتي'.
اشارة أخري نعتبرها خطيرة هي أن احد الركاب (قتل) سائق ميكروباص في الاسكندرية للاختلاف علي الأجرة.
ربما يكون مجرد حادث ولكنه يؤشر علي شيء مهم هو أن الناس ستحل مشاكلها خارج إطار الدولة والقانون وقبلها بأيام كان لدينا مذبحة قرية الكلافين بالقليوبية التي أظهرت ان مصر عادت بصورة واقعية لأيام المماليك.
وان سفينة الوطن تغرق ولا تجد من يستجيب لهذه الاشارات
إن عبارة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل من أن مصر (رايحة في داهية) تلخيص لواقع مرير ومستقبل غامض.. وطن تحولت حالته من عابر للقارات إلي مجرد وطن قصير المدي.
وطن نسمعه يردد أبيات أمل دنقل.. وهو يموت في الفراش:
أموت والأعداء
تدوس وجه الحق
وما بجسمي موضع
إلا وفيه طعنة برمح
إلا وفيه جرح
إذن فلا نامت أعين الجبناء