قبة النسر :
هي القبة التي تعتلي الجامع الأموي بمدينة بدمشق . ويرجع تاريخ بنائها إلى أيام تاريخ بناء الجامع نفسه عام 67هـ / 687 م. ولما أقيم هيكل الجامع عمد الوليد بن عبد الملك سادس خلفاء بني أمية إلى رفع القبة وأرادها عالية شامخة، بيد أنه ما كاد البناءون ينتهون من بنائها حتى سقطت، فشق ذلك على الوليد، فجاءه بنّاء من أهل دمشق وعرض على الخليفة أن يبنيها من جديد واشترط أن يعطى عهدا لله أن لا يشترك معه غيره في بنائها، فأجيب إلى ذلك. فقام هذا البنّاء بحفر الأرض حتى بلغ الماء ثم وضع الأساس وغطاه بالحصر، ثم اختفى ولم يعده فطلبه الناس عاما كاملا دون أن يعثروا له على أثر، فلما كان بعد العام، أظهر نفسه، فلما أحضر إلى الوليد قال له الخليفة ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال البنّاء: تخرج معي حتى أريك، فخرج الوليد والبناء والناس معهما، حتى كشف الحصر، فوجد البنيان قد انحط ونزل قليلا عما كان عليه من قبل. فقال الرجل: من هنا كان سقوط القبة، فابنوا الآن، فإنها لا تهوي إن شاء الله، وبالفعل، استقرت القبة بعد ذلك ولم تسقط.
ولقد أراد الوليد بن عبد الملك أن يجعل لقبة جامع دمشق غطاء من الذهب الخالص ولكن عقلاء قومه ثنوه عن هذا الرأي وأقنعوه بأنه لو فعل ذلك لأفرغ خزانة الدولة من المال دون أن يبلغ غرضه. فأمر بأن يجعل غطاؤها من ألواح الرصاص. فجمع الناس الرصاص من كل مكان وبقي من سطح القبة قطعة لم يجدوا لها رصاصا إلا عند امرأة أبت أن تبيعه إلا بمثل زنته ذهبا، فلما سئل الوليد عن ذلك وافق على ما طلبته المرأة، فلما بلغها ذلك، قالت بل هو هدية مني إلى الجامع، فقيل لها: وكيف إذن ضننت به أولا إلا بوزنه ذهبا، فأجابت: إني ما أردت الذهب فعلا ولكني أحببت اختبار عدل الإسلام! وكانت هذه المرأة يهودية.
وبقيت هذه القبة قائمة على بناء الوليد بن عبد الملك إلى عام 432هـ / 1040 م ثم التهمها الحريق الذي وقع في الجامع عام 461هـ / 1068 م، حيث سقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة، وتغيرت معالمه، وتقلعت الفسيفساء التي كانت في أرضه وعلى جدرانه، وتبدلت بضدها. وقد كانت سقوفه كلها مذهبة، والجملونات من فوقها، وجدرانه مذهبة ملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا. وفي عام 475هـ / 1085 م جددت هذه القبة مع سقف المقصورة والطاقات ، وقد تم ذلك في عهد نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي. وفي عام 575هـ / 1179 م جدد السلطان صلاح الدين الأيوبي ركنين من أركانها.
ولقد وصف ابن جبير في آواخر القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي، قبة النسر فقال: ".. وأعظم ما في هذا الجامع المبارك، قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه، سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو أساس لها، يتصل من المحراب إلى الصحن. وتحته ثلاث قباب فيه، تتصل بالجدار الذي إلى الصحن وفيه تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينها وبين القبة الرصاصية، قد اعترضت الهواء وسطه، فإذا استقبلتها أبصرت منظرا رائعا ومرأى هائلا يشبهه الناس بنسر طائر، كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه ونصف جدار البلاط عن يمين ونصف الثاني عن شمال جناحيه، وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه.. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو، كأنها معلقة في الجو... وهذه القبة مستديرة كالكرة، وظاهرها من خشب قد شد بأضلاع من الخشب الضخام موثقة بنطق من الحديد ينعطف على ضلع عليها كالدائرة وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها، وداخل هذه القبة، وهو ما يلي الجامع المكرم خواتيم من الخشب منظم، بعضها ببعض قد اتصل اتصالا عجيبا. وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب، مزخرفة التلوين بديعة القرنسة ، يرتمي الأبصار شعاع ذهبها. وتتحير الألباب في كيفية عقدها ووضعها لإفراط سموها، أبصرنا من تلك الخواتيم الخشبية خاتما مطروحا في جوف القبة، لم يكن طوله أقل من ستة أشبار في عرض أربعة، وهي تلوح في انتظامها للعين، كأن دور كل واحد منها شبر أو شبران، لعظم سموها، والقبة الرصاص محتوية على هذه القبة المذكورة وقد شدت أيضا بأضلاع عظيمة من الخشب الضخام موثقة الأوساط بنطق الحديد وعدد ها ثمان وأربعون ضلعا، بين كل ضلع وضلع أربعة أشبار، قد انعطفت انعطافا عجيبا واجتمعت أطرافها في مركز دائرة من الخشب أعلاها. ودور هذه القبة الرصاصية ثمانون خطوة وهي مائتا شبر وستون شبرا، والحال فيها أعظم من أن يبلغ وصفها وإنما هذا الذي ذكرناه نبذة يستدل بها على ما وراءها وتحت الغارب المستطيل المسمى "النسر" الذي تحت هاتين القبتين، مدخل عظيم هو سقف المقصورة، بينه وبينها سماء جص مزينة. وقد انتظم فيه من الخشب ما لا يحصى عدده وانعقد بعضها ببعض وتقوس بعضها على بعض وتركبت تركيبا هائلا منظره، وقد أدخلت في الجدار كله دعائم للقبتين المذكورتين وفي ذلك الجدار حجارة، كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة لا تنقلها الفيلة فضلا عن غيرها".
ولقد تصدى لإصلاح الجامع والقبة والعناية بهما على مر السنين ملوك المسلمين وأمراؤهم وأعيانهم وعامتهم. ففي عام 602هـ / 1205 م أصلحت عدة دعائم منها في الجهة الشمالية. وفي عام 611هـ / 1214 م أسندت بأربعة أوتاد من الخشب طول كل منها 32 ذراعا بذراع العمال، جيء بهذه الأوتاد من بساتين الغوطة، وفي عام 678هـ / 1279 م جددت فيها أربع دعائم من ناحية الغرب.
ثم تعرض الجامع الأموي للحريق مرة ثانية في عام 740هـ / 1339 م إذ أن جماعة من رءوس النصارى اجتمعوا في كنيستهم وجمعوا من بينهم مالا جزيلا، فدفعوه إلى راهبين قدما عليها من بلاد الروم، يحسنان صناعة النفط ، اسم أحدهما ملاني والآخر عازر فعملا كحطا من نفط، وتلطفا حتى عملاه لا يظهر تأثيره إلا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوضعاه في شقوق دكاكين التجار في سوق الرجال عند الدهشة في عدة دكاكين من آخر النهار، بحيث لا يشعر أحد بهما، وهما في زي المسلمين، فلما كان في أثناء الليل، لم يشعر الناس إلا والنار قد عملت في تلك الدكاكين حتى، تعلقت في درابزينات المئذنة الشرقية المتجهة إلى السوق المذكور، وأحرقت الدرابزينات. وجاء نائب السلطنة تنكز والأمراء، أمراء الألوف، وصعدوا إلى المنارة وهي تشتعل نارا. واحترسوا عن الجامع، فلم ينله شيء من الحريق. وأما المئذنة فإنها تفجرت أحجارها واحترقت السقالات التي تدل السلالم، فهدمت وأعيد بناؤها بحجارة جدد. وفي عام 1311هـ / 1893 م احترقت القبة فيما احترق من سائر الجامع، وأعيد بناء الجامع و القبة من جديد. وكان الانتهاء من البناء عام 1318هـ / 1900 م.
قبة الروضة الشريفة :
هي من أشهر القباب وأقدسها عند المسلمين، وهي القبة التي تظلل ضريح النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة داخل المسجد النبوي الشريف وأول من بنى هذه القبة هو الكمال أحمد بن البرهان عبد القوي الربعي، ناظر مدينة قوص بمصر، وكان ذلك عام 678هـ / 1279 م في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي، وقبل هذا التاريخ لم يكن فوق الضريح الشريف إلا السقف العادي الذي كان مبنيا بالآجر تمييزا للحجرة الشريفة عن بقية المسجد.
والقبة الوحيدة التي كانت في ذلك المسجد، هي تلك التي شادها الخليفة العباسي الناصر لدين الله في أوائل القرن السابع للهجرة / الثالث عشر الميلادي، وذلك لحفظ ذخائر الحرم، مثل المصحف الكريم العثماني وعدة صناديق كبار متقدمة التاريخ صنعت على ما ذكر السمهودي بعد عام 300 للهجرة.
وسبب بناء قبة الروضة الشريفة أنه في عام 654هـ / 1256 م، بينما كان أحد خدم المسجد النبوي الكريم يشعل القناديل، علقت النار ببعض الأثاث وسرعان ما انتشرت حتى أتت على السقف وأتلفت جميع ما احتوى عليه المسجد الكريم: من المنبر النبوي الشريف والأبواب والخزائن والشبابيك والمقاصير والصناديق وما اشتملت عليه من كتب كثيرة، وكذلك كسوة الحجرة الطاهرة وكان عليها 16 ستارة أهديت إليها من الملوك والحكام والأعيان. والشيء الوحيد الذي سلم من هذا الحريق هو القبة وذلك لأنها كانت موجودة في وسط الجامع الشريف، فلم تدركها ألسنة اللهب.
وقد كانت القبة في زمن الملك المنصور قلاوون الصالحي، مربعة الشكل عند رقبتها ومثمنة بأعلاها وقد بنيت بأخشاب رفعت على رءوس السواري، ومن فوق هذه الأخشاب ألواح من الرصاص. وفيها فتحة، إذا أطل منها الإنسان فإنه يرى سقف المسجد الأسفل. وحول هذه القبة على سقف المسجد ألواح من الرصاص مفروشة فيما قرب منها. ويحيط بالسقف وبالقبة درابزين من الخشب وفي أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، اختلت ألواح الرصاص التي في القبة، وزالت عن مواضعها، فلما تولى الملك الأشرف شعبان بن حسين عام 765هـ / 1363 م أمر بتجديدها وإحكام ألواح الرصاص التي كانت قد اختلت فيها. وفي عام 881هـ / 1476 م في أيام السلطان الأشرف أبي النصر قايتباي، ظهر الخلل في بعض أخشاب هذه القبة، فقام متولي العمارة الشمر بن الزمن بإصلاحها، وعضدها بأخشاب سمرت معها، وأزال ما كان حولها من ألواح الرصاص التي بأعلى السطح التي بينها وبين الدرابزين المتقدم ذكره بعد أن أزال الدرابزين القديم وجعل مكانه آخر جديدا استحضره معه من بلاد مصر.
وفي ليلة 13 رمضان عام 886هـ / 1481 م نزلت صاعقة على المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، فأحرقت المئذنة والسقوف وأتت على ما فيه من خزائن وكتب ولم تبق سوى الجدران.
وكانت هذه القبة التي أحرقتها الصاعقة تدعى "القبة الزرقاء" فأقيمت مكانها قبة جديدة، عرفت فيما بعد باسم "القبة البيضاء" وقد رفعت هذه القبة على دعائم وضعت بأرض المسجد الشريف وبنيت بطريقة العقد من الآجر وجعلت الدعائم المذكورة في موازاة الأساطين التي بينها وبين المقصورة التي كان قد أحدثها السلطان ركن الدين بيبرس عندما حج عام 667هـ / 1268 م.
وأثناء العمل بإصلاح المسجد وقبته من أثر الحريق وجدوا في جدار المنارة الرئيسية عند هدمها خزانة، وضع الأقدمون بها أوراق المصاحف المحترقة في الحريق الأول، وسدوا عليها، فأخرجوا تلك الأوراق، ووضعوها في أعلى القبة المذكورة عند فتحها. فبدا في القبة تشقق، فأخرجوا تلك الأوراق منها. ولكن هذه القبة لم تتماسك طويلا، إذ ظهر فيها التشقق من جديد، لاسيما في أعلاها وذلك لفساد المونة التي صنعت منها، فأمر السلطان قايتباي بعزل متولي العمارة الذي باشرها وعين مكانه المقر الشجاعي شاهين الجمالي، فقام عام 891هـ / 1486 م بهدم المنارة وأعالي القبة المذكورة، واتخذ في النوافذ المحيطة بالقبة عند جوانبها سقفا يمنع سقوط ما يهدم منها إلى الأرض ثم شرع في هدمها وإعادتها. وقد جاءت هذه القبة حسنة الإتقان.
ولم يزل الخلفاء من بني العباس، ينفذون الأمراء على المدينة الشريفة ويمدونهم بالأموال لتجديد ما يتهدم من المسجد النبوي، فلم يزل ذلك متصلا إلى أيام الناصر لدين الله - أي في أوائل القرن السابع للهجرة وأوائل القرن الثالث عشر للميلاد - فإنه، أي الخليفة المذكور، كان ينفذ في كل عام من الذهب العين الإمامي، ألف دينار لعمارة المسجد وينفذ عدة من النجارين والبنائين والنقاشين وأرباب الحرف وتكون مادتهم مما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف، وينفذ من الحديد والصناع والرصاص والحبال والآلات شيئا كثيرا.
وما تزال الدول الإسلامية توالي العناية بالمسجد النبوي الكريم، وترصد له في ميزانيتها الأموال الطائلة لأجل عمارته وصيانته وتجديد ما بلي أو تلف من معالمه وقد حدثت في القبة الشريفة شقوق في زمن السلطان محمود ابن السلطان عبد الحميد الأول فأمر بتجديدها فهدم أعاليها وأعيد بناؤه بناءا متقنا وذلك سنة 1233 هـ ثم أمر بصبغها باللون الأخضر، ومنذ ذلك الحين أصبحت تدعى "القبة الخضراء". وفي عام 1266هـ / 1849 م جدد السلطان عبد المجيد ابن السلطان محمود بناء هذا المسجد. وزاد فيه من الجهة الشمالية الكتاتيب، ومن الجهة الشرقية خمسة أذرع ونقض جميع مبانيه ما عدا الجدار القبلي والجدار الغربي والحجرة المطهرة. وقد جعل الأسطوانات والعقود من الحجر الأحمر، وجميع سقوفه قبابا.
يتبــــــــــع .....