(٣)
خذ كذلك ما جرى حين أراد العرب أن يتواصلوا فيما بينهم لاتخاذ موقف إزاء المذبحة الاسرائيلية، فأدركوا انه لا سبيل إلى تحقيق ذلك الا إذا تمت الاستعانة «بصديق» من غير العرب. في الوقت ذاته اكتشفنا نحن «المشاهدون» العرب أن الأطراف الفاعلة التي تتحرك على المسرح السياسي العربي، كلها من غير العرب. إذ فوجئنا حين وقعت الواقعة أن ثمة فراغا عربيا هائلا، وان اللاعبين الحقيقيين في تلك الساحة الفارغة هم الجيران الأتراك والإيرانيون والإسرائيليون، إضافة الى القوى الغربية بمختلف مسمياتها.
لقد دعا الأتراك لإصلاح ذات البين بين المتخاصمين العرب، وحمل الدعوة التي فوجئت بها أنقرة السيد احمد ابو الغيط وزير الخارجية المصري، الذي قدم إليها أفكارا للتعامل مع الأزمة الراهنة، التي لم تكن تركيا طرفا فيها. وكان يمكن أن تنتقل هذه الأفكار مباشرة إلى دمشق والى قيادة المقاومة الفلسطينية، ولكن مصر وجدت نفسها أمام لحظة استثنائية لم تستطع فيها أن تخاطب تلك الأطراف العربية، فلجأت إلى الوسيط التركي، الذي لا سابق خبرة له بالتناقضات العربية العربية، وانحصرت خبرته فيما حققه من نجاح فى حل الصراعات التركية مع الجيران بمن فيهم سوريا والعراق وإيران.
اننى هنا أسجل المفارقة فقط، منبها إلى اننى لست ضد الوساطة التركية، لاقتناعى بان الوسيط التركي سيكون أكثر نزاهة واستقامة من وسطاء آخرين اخفوا تحيزاتهم عن الأعين، فافسدوا أكثر مما أصلحوا. ومن ثم اصطبحوا جزءا من المشكلة وليسوا جزءا من الحل. لقد تمنيت أن تتم الوساطة التركية في ظروف أفضل، ومع ذلك أدعوا إلى تشجعيها والتجاوب معها، لكن لا أعول عليها كثيرا، لان الأمور أشد تعقيدا وتركيا حديثة الخبرة بالخرائط والصراعات العربية-العربية.
(٤)
التناقضات ظهرت بصورة اشد وضوحا حين طرحت فكرة عقد القمة العربية للبحث فيما يمكن ان يفعله القادة العرب في مواجهة المذبحة الإسرائيلية. ذلك أن صيغة المحاور ظهرت على الفور في الأفق، ولاحت بوادرها أثناء اجتماع القمة الخليجية التي تمت في مسقط. ففى حين تحمس بعض القادة لانعقاد القمة العربية، فان آخرين عارضوا الاقتراح. وفيما علمت من بعض من شاركوا الاجتماع فإن المؤيدين تطلعوا إلى أن يتوافق الزعماء العرب على خطوات عملية في مواجهة العدوان، وتردد أن أحدهم راودته فكرة التلويح بسلاح النفط، من خلال اقتراح تخفيض إنتاجه أسوة بما جرى في عام ١٩٧٣، حين ذهب الملك فيصل رحمه الله الى أبعد، وقاد حملة وقف إنتاج النفط وتصديره إلى الدول الغربية، تعبيرا عن التضامن مع الرئيس أنور السادات.
الذين عارضوا الاقتراح انتقدوا رفض استمرار التهدئة، وحملوا حركة حماس المسؤولية عما جرى. وذهب احدهم إلى أنها وحزب الله يتحركان في إطار المشروع الإيراني. بل ان احد وزراء الخارجية انفعل أثناء المناقشة ووصف المقاومين فى حركة حماس بأنهم "شرذمة" لا تتوقف عن إثارة القلاقل في المنطقة.
فيما علمت أيضا فانه حين تصاعد الخلاف بين الطرفين، طرح اقتراح دعا الى الاسترشاد برأى احد الزعماء العرب في الموضوع. ورشحت شخصية خليجية من مؤيدي عقد القمة للقيام بالتشاور المطلوب. وحين تمت الاتصالات التمهيدية للقيام بالمهمة، فإن الرد جاء سلبياً، فلم يعقد اللقاء، وصرف النظر عن الاقتراح.
فى تلك الأثناء كانت الدعوة قد أطلقت لعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب ولم يكن باعثا على التفاؤل فى البداية ان يتحدد موعد الاجتماع بعد مضى أربعة أيام من وقوع المذبحة (بدأت يوم السبت والاجتماع عقد يوم الأربعاء)- وكانت وجوه بعض الوزراء الخارجين فى ختام الاجتماع وعلامات خيبة الأمل التي ظهرت عليها معبرة بشكل كاف عما دار في الجلسة المغلقة. ذلك أن الحوار الذي دار كان صورة مكبرة لما حدث في قمة مجلس التعاون الخليجي. ومن طريف ما حدث بعد الاجتماع إن أحد وزراء الخارجية العرب أجرى اتصالا هاتفيا بإحدى القنوات الفضائية لكى يعلن على شاشتها براءته من البيان الذي صدر باسم الوزراء.
أسوأ ما في البيان الذي خيب آمال الذين أحسنوا الظن بالاجتماع، خصوصا فى أعقاب الخطبة العصماء التي ألقاها السيد عمرو موسى فى بدايته، أن وزراء الخارجية نفضوا أيديهم من المشكلة وأجهضوا فكرة اجتماع القمة العربية. وكانت وسيلتهم إلى ذلك أنهم قرروا الاحتكام الى مجلس الأمن أولا، وقالوا في بيانهم أنهم إذا فشلوا فإنهم سيتشاورون فى مسألة القمة بعد ذلك. وهم أكثر العارفين بأن مهمتهم فاشلة، لأن الفيتو الأمريكى يتربص بإيقاف أى محاولة للتعبير المتوازن عن مظلومية الشعب الفلسطينى، وهو ما حدث بالفعل.
كانت النتيجة أن العرب عجزوا عن أن يخاطبوا بعضهم البعض فوسطوا تركيا. وتنصلوا من عقد القمة العربية بإحالة الأمر إلى مجلس الأمن. ثم راحوا يلومون المجلس لأنه تباطأ أو سوف في اتخاذ القرار الذي يريدونه، في حين أن المجلس اقتدى بهم، ولم يكن موقفه أفضل من موقفهم هم.