ألبيرت أينشتاين - السيمفونية الناقصة (الجزء الثاني)
في عام 1921 بينما كان يقيم في برلين، ترشح أينشتاين لجائزة نوبل، ليس من أجل نظريته النسبية بل لأجل عمل آخر أكمله أيضا خلال السنة العجيبة 1905، وقد كان حول طبيعة الضوء.
كان الضوء بمعتقد الجميع مكونا من موجات ناعمة مستمرة، لكن الضوء في نظر أينشتاين ظهر مختلفا، فقال: إنه قد يكون أيضا مجموعة من الجزيئات الصغيرة.
قلب أينشتاين المقاييس حين بيّن مفهوما جذريا جديدا يُدعى الجزء الكمي من الضوء، فالضوء ليس فقط منسابا ومستمرا، بل يأتي في رزمات أو كرات صغيرة، تُدعى اليوم "الفوتون"، وحين أثبت أن الضوء ليس مجرد موجة بل جزيئات صغيرة منفصلة، حقق اكتشافه هذا ثورة في عالم الفيزياء، وفي الوقت ذاته وَلّد شيطان أينشتاين. أصبح هذا الإنجاز حجر الأساس لحقل علمي جديد، عرف ب"ميكانيكا الكم"، هذا الحقل الذي يصف تصرف الجسيمات الأساسية في عالمنا، الجسيمات الذرية الفرعية التي تُشكل كل شيء، وفيما تطورت هذه النظرية بدأ الجميع يُلاحظ كيف أنه بناء على هذا الحجم الأساس كل شيء يتصرف بطريقة مختلفة جدا عن الكون الأنيق حسب رؤية أينشتاين.
بحث الناس ل25 سنة في نظرية الكم المحيرة محاولين فهمها إلى أن ظهر فجأة "هايزنبرغ" "Werner Karl Heisenberg" خريج جامعي من ألماني ليُنتج نظرية كاملة مبنية على أسس تختلف عما كان يُفكر فيه الناس، فأحدثت صدمة.
اقترح هايزنبرغ قاعدة فيزياء جديدة بكل ما فيها، قال إنه من المستحيل أن نقيس سرعة جسيم ما وموقعه لأن مجرد مشاهدة هذه الأشياء الصغيرة يُؤثر جذريا على تصرفها، وإن كان هذا صحيحا، فنتائجه ستكون عميقة، لأننا إن لم نستطع أن نكون دقيقين بسرعة جسيم ما وموقعه فمن المستحيل أن نُقِيم توقعات دقيقة حول تحركاته.
إن كان هايزنبرغ على حق، أي أنه من المستحيل أن نقيس سرعة جسيم وموقعه في الوقت ذاته، فهذا يعني أن بعض الأمور لن تكون أبدا أكيدة، وبالنسبة لأصحاب نظرية الكم، أفضل ما يُمكن تأمله هو علم مبنيٌ على الاحتمالات، بينما بالنسبة لأينشتاين وعلى الرغم من اعترافه بقيمة كبيرة لبعض نواحي نظرية الكم، لم يصدق أن هذه هي الطريقة التي خلق بها الله الكون. وكانت معارضة أينشتاين الأساسية على ميكانيكا الكم تكمن في كونها لا تناسب عالمه، ولم يستطع أن يتقبل فكرة اختلاف نتائج ذلك، فمثلا إن قمت بالاختبار ذاته مرتين بالطريقة ذاتها قد تحصل على نتيجتين متباينتين، وكره فكرة الاستسلام لعالم الاحتمالات.
إن نظرية الكم تعني بشكل مختصر أن العالم يمكن أن تحدث فيه أمور غريبة جدا، مثلا:
إن كنا نمشي في الشارع فإننا نتوقع أن ينتهي بنا الأمر عند الطرف الآخر، لكن تمة احتمال محتسب محدود يمكن حله فتصبح في المريخ وتحله مجددا فتصبح على الأرض من جديد، بالطبع عليك أن تنتظر دهرا لحدوث ذلك، لكن مبدأيا إنه أمر قد يحدث.
قلق أينشتاين تعدى هذه المبادئ الغريبة، ليبلغ مسألة علمية حاسمة أصبحت على المحك، فبولادة الميكانيكا الكمية أصبح هناك مجموعتين استثنائيتين من القواعد داخل الكون:
- قواعد أينشتاين التي تحكم الأجسام الكونية حيث يُمكن التنبؤ بكل شيء
- قواعد ميكانيكا الكم التي تصف القطع الأساسية التي تشكل المواد، وحيث يُمكن وصف كل شيء بواسطة الاحتمالات.
كان أينشتاين نوعا ما جَدُّ نظرية الكم لكنه أصبح يكره حفيده لأنه يرى العالم بالطريقة ذاتها التي اعتمدها نيوتن، وهي التي يكون فيها العالم واضحا ومحددا تعلم فيه بكل ما يحصل في أي زمان ومكان، فمع نظرية الكم تكونت نظرة إلى العالم متناقضة تماما مع عالم أينشتاين الروحي المليء بالتنبؤات بل إنه كره هذه الفكرة. وبلغ الجدل بين النظريتين ذروته حين تفجرت مجموعة من النقاشات بين أينشتاين وأحد المدافعين الكبار عن نظرية الكم، وهو:"نيلز بور"، وقد صُنف الجدل الفيلسوفي بين أينشتاين وبور بأنه من أعظم الجدالات الفيلسوفية في تاريخ العلم، فقد أصبحت طبيعة الوجود في حد ذاته مهدَّدَة، كان تصادما لعمالقة العلم.
أينشتاين وبور كانا يحترمان بعضهما، لكنهما كانا في الواقع شخصيتين مختلفتين، كان أينشتاين مثال الوضوح، كان يرتاح في التكلم مع الملوك والملكات كما مع الأطفال، لكن بالنقيض عُرف "بور" كونه متحدثا سيئا، وأحيانا كان من المستحيل أن تفهم ما يقوله. وقد اختلف علم كل واحد منهما، بدرجة اختلاف شخصيتيهما.
كما لا يُمكن التنبؤ برمية النرد، كذلك كان العالم بنظر "بور"، لكن أينشتاين دحض نظريته بجملته الشهيرة: إن الله لا يلعب النرد.
وما يعنيه بذلك هو أنه عند مستوى أساسي لا يمكن للفيزياء أن تكون قائمة على الترجيحات. ولكن "نيلز بور" رأى عيبا في نظرية أينشتاين وقال له: لا يمكنك أن تقول لله ماذا سيفعل بنرده.
المسألة الحاسمة كانت هذه: هل كان أينشتاين بالغ الذكاء، بحيث أنه سيصرف نظرية عدم التنبؤ من قلب ميكانيكا الكم بكل بساطة؟ أو هل كان العبقري الكبير على خطأ؟
ارتأى أينشتاين أن تكون أفضل طريقة لتخليص الفيزياء من هذه النظرية هو تمديد أعظم عمل له: النسبية العامة، ساعيا للتوصل إلى نظرية جديدة، تضم الجاذبية القوة التي تجمع الأنظمة الشمسية والمغناطيسية الكهربائية أي القوة التي تصل ذرة بأخرى، وقد أمل أينشتاين في أنه عبر جمع هاتين القوتين سيزول مبدأ عدم القدرة على التنبؤ ببساطة.
وما كان يبحث عنه أينشتاين يمكن تفسيره برمية نرد، حين ترمي نردا قد يبدو من غير الممكن التنبؤ بالنتائج لكن الأمر يختلف في المبدأ فإن علمت تماما سرعة النرد ومقاومة الهواء وكل ما يتعلق برمية النرد يُمكنك عندها التنبؤ بما إذا كان سيتوقف عند الرقم ستة أو خمسة أو أربعة...
لا يمكن المبالغة في الطموح الذي كان أينشتاين يسعى إليه، فهو إن نجح في ذلك أثبت أن كافة الظواهر الطبيعية مبنية على أساس مبدأ التوقع، من تحرك النجوم والكواكب عبر السماء إلى الجزيئات الأساسية التي تشكل عالمنا، وعندها يوضع عدم التنبؤ في نظرية الكم جانبا، وتصبح نظريته معروفة ب: نظرية كل شيء.
عندما بدأ أينشتاين يسعى إلى الجمع بين النظريتين (الجاذبية والمغناطيسية الكهربائية) أراد معادلة ليست أطول من سنتيمترين _____ تسمح له بأن يقرأ ذهن الله.عمل أينشتاين على نظريته الجديدة على امتداد العشرينيات، وخلال تلك الفترة أصبح مريضا، لكنه ما كان ليترك المرض يعيق تقدمه، فغطى شراشف سريره بالحسابات، وبدأت الأنباء تتسرب إلى الصحافة، حول دنوه من اكتشاف أمر ما.
في نوفمبر عام 1928 نشرت "نيويورك تايمز" عنوانا عريضا: أينشتاين على بعد خطوات من اكتشاف عظيم وهو يكره التدخل. انتشرت إشاعة تقول: إن أينشتاين سينشر نظرية كل شيء ما أدى إلى ضجة إعلامية اضطرت أينشتاين إلى أن يختبئ، ثم بعد سنوات من العمل وفي الثلاثين من يناير عام 1929 نُشرت النظرية، وتفجر النبأ في أنحاء العالم فكان حدثا مثيرا إلى درجة أن متجرا في لندن عرض الصفحات الستة على نوافذه.
وكان هذا منصفا فإذا اتضح أن أينشتاين على حق فستكون ضربة كبيرة لمبدأ التنبؤ الذي يقع في قلب ميكانيكا الكم، لكن عندما تم النشر بدأ أينشتاين يعود أدراجه خوفا من أن يكون أخطأ في شيء ما، وحينما بدأ أينشتاين بنفسه يستعيد الفكرة، زادت قساوة مجتمع الفيزيائيين في التعامل معه، وبشكل خاص "ولدغين بولي" الذي قال: يبدو أن الله قد تخلى عنه.
الحقيقة الفظيعة كانت أن نظريته الجديدة لم تعجز عن التعامل مع ميكانيكا الكم فحسب بل تعارضت مع أروع عمل له النسبية العامة، فبعد نشر الوثيقة، كانت ردة فعل زملائه، النقد الشديد لها واشتكوا من أن أينشتاين قد تراجع عن بعض الأفكار الأساسية لنظرية النسبية العامة، وتابع أينشتاين البحث بنفسه لسنة أخرى، لكنه اعترف أخيرا أنها كانت مقاربة خاطئة
أهين أينشتاين علانية، لكن بالنسبة إليه المعركة لم تنتهي بعد، لأنها استمرت إلى آخر يوم في حياته، لكنها كانت أوقات عصيبة بالنسبة إليه.ففي عام 1932 ومع ظهور النازية غادر ألمانيا للمرة الأخيرة، وكونه رجلا بارزا وُضعت جائزة لقتله، وكان عمله من بين الأعمال التي أحرقت في الشوارع. في عام 1933 وصل إلى أميركا، وأقام بعدها في مركز الدراسات المتقدمة في "برينستن"، وكان ذلك هو المكان الأخير الذي أمل أينشتاين في أن يجد فيه الزمان والمكان المناسبين لكي يهزم أصحاب نظرية الكم ويُكمل نظرية كل شيء.كانت توقعات أينشتاين لدى المجيء إلى مركز الدراسات المتقدمة أن يجد فيه العزلة المناسبة لإكمال عمل حياته ووضع اللمسات الأخيرة على نظرية كل شيء.لكن فيما استمر العمل في عزلة، كان عالَم الفيزياء يتقدم من دونه، غاص أينشتاين في نظرية كل شيء، فيما كان يفوته عدد من الاكتشافات الكبيرة، فخلال سنوات إقامته في "برينستن" كانت ميكانيكا الكم تتحول إلى أهم تحرك في الفيزياء، وبدأ العالم يتأقلم مع غرابتها، فقد قادت مبادئها نحو إنجازات تكنولوجية مذهلة، فجهاز "[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]" الذي وُلد بعده الحاسوب الذي غير عالمنا، يعتمد على ميكانيكا الكم، والمسرعات التي تعمل على الجزيئات، كشفت بعد ذلك عن جزيئات ذرية فرعية أخرى، تتصرف بشكل غير متوقع تماما كما توقعت ميكانيكا الكم، كل هذا بينما أينشتاين يجهل حدوثه آملا أن تأتي نظرية كل شيء لتحل مكان الأخرى، وبهذا فإن أصبح أينشتاين بنظر مجتمع الفيزيائيين، عالما فقد كل صلة بالأبحاث العصرية، أصبح قديم الطراز، رفاث عالِم يستحق الاحترام، لكن بالطبع بقي شخصية سياسية ذات أهمية، لكنه تحول إلى شخص لا يستحق الوقت، كمفكر من القرن التاسع عشر.استسلم جسد العالم الكبير ألبيرت أينشتاين للموت في 12/04/1955 ، وبقيت خطته الكبيرة من دون نهاية. ماذا نستنتج من سنوات أينشتاين الأخيرة؟
- اقترح البعض أن أينشتاين الذهن الأفضل في عصرنا أضاع النصف الثاني من حياته على حماقة، فعجزه عن تقبل طبيعة ميكانيكا الكم، وفقدانه الصلة بالفيزياء الحديثة، ضيعا كل الفرص أمام نظريته، نظرية كل شيء.
- في إدراك مؤخر كان من الواضح جدا أن أينشتاين لم يكن لينجح في ذلك المشروع، فقد كان يُنكر ميكانيكا الكم، وكل أنواع الاكتشافات الأخرى، كان مشروعا قُدر له الفشل منذ البداية.
وفيما يرى البعض تلك السنوات الأخيرة أنها خيبة أمل، معظمنا لا يُمكنه سوى أن يحلم بتحقيق ما يُوازي إنجازاته.
خلال السنوات الأخيرة كان نتاج أينشتاين مخيبا لكنه من جهة أخرى في الأربعين من العمر، كان قد زرع بذور القرن العشرين، التي سمحت له بالوقوع في ما يُسميه البعض فشل حياته. واليوم ثمة فكرة قد تُشكل خلاصا لحلم نظرية كل شيء، حيث مازال العالَم العصري يحاول أن ينتج نوعا من النظرية الموحدة لكل القوى، وهو نوعا ما نتاج عمل أينشتاين في القرن الأخير، وحاليا يُعتقد أن أفضل مرشح لذلك هو: نظرية تسلسل الطاقة.
شاءت سخرية القدر المحزنة أن يكون في قلب نظرية تسلسل الطاقة الأمر الوحيد الذي لم يتمكن أينشتاين من تقبله: ميكانيكا الكم. يشك البعض في أن أينشتاين كان ليرفض نظرية تسلسل الطاقة بشكل خاص، وببساطة لأنها تحوي ميكانيكا الكم بطريقة كان قد عبر عن رفضه القاطع لها، ورغم أنها نظرية تكمل حلمه نوعا ما، لكنه ما كان ليسعد بها.
كانت حياة أينشتاين حياة لا تخلو من السخرية:
- كان شخصية رئيسة في نمو نظرية الكم، لكنه لم يتقبل نتائجها.
- كان مسالما، لكن معادلته "E=MC2" اتصلت مباشرة بالقنبلة الذرية.
- كان متحدثا رائعا، لكنه أبى ؟أن يستمع إلى نصيحة زملائه.
وفوق كل شيء أثبت صراع أينشتاين مع ميكانيكا الكم:
- أنه وحتى العالِم العظيم لا يستطيع أن يتوصل وحده إلى الموضوعية اللازمة للتنبؤ بحكمة الله.
ونتيجة لذلك فإن نسخة أينشتاين لنظرية كل شيء، على الرغم من جمال نيتها سوف تبقى: السيمفونية الناقصة.