«رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وجبنا فوانيس رمضان» التي جاءتنا من كل مكان تغني وترقص وتعمل بالريموت كنترول، ولكن يظل الفانوس الصاج بزجاجه الملون والمزخرف بأسماء الله الحسنى يتربع على عرش الفوانيس ويزين مدن الحجاز، من محلات ومطاعم لأنه ليس مجرد لعبة من البلاستك أو موضة تجىء وتذهب، بل هو موروث شعبي جميل محفور في خيال كل منا نستحضره في كل رمضان وسيظل الإعلان الرسمي والشعبي لحلول شهر الصوم.
فانوس رمضان ما أجمله، ذلك الموروث الشعبي العتيق ذو الزخارف الإسلامية الدقيقة والألوان البراقة المستمدة من الطبيعة. لكن يبدو أن الصين لن تترك شيئا إلا وتضفي بصماتها عليه، ففانوس رمضان هذا العام يخرج منه دخان وبه دمية على شكل جان وما ان يفتحه الطفل حتى يقول له شبيك لبيك، اطلب ما تتمناه.
وفوانيس أخرى تغني أغاني عبد المجيد عبد الله بالإضافة إلى أغاني رمضان بعضها يعمل بالتصفيق أو باللمس، وآخر يعمل بالريموت كنترول، وفوانيس عليها شخصيات والت ديزني واخرى بالساعة والراديو. والفوانيس المصنوعة في الصين بدأت تبتعد رويدا رويدا عن شكل وروح فانوس رمضان التقليدي، فهي مجرد ملامح سطحية لموروث ارتبط بوجدان الناس منذ نحو ألف عام. فالموسيقى والاضاءة مهما تنوعتا فلن تحلا محل فانوس الصاج بألوانه الزجاجية اللامعة.
الفانوس مورث تحتفي به الشعوب، وبالرغم من التحولات التي ادخلت عليه لا يزال المصريون يستعيدون ذكرى الفانوس عند حلول الشهر الفضيل. عرف المصريون الفانوس منذ عام 358 هجرية في شهر رمضان عندما دخل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي القاهرة فخرج الأهالى لاستقباله حاملين المشاعل والفوانيس احتفالا بمقدمه. وكانوا يستخدمون الفوانيس في اضاءة البيوت والحارات، وكان الأطفال يحملونها بعد الإفطار لطلب الهدايا المتمثلة في المكسرات والحلوى، والتي كان الفاطميون يقدمونها الى المصريين كمظهر من مظاهر كرمهم، وتأكيدا لنفوذهم في مصر.
والفانوس كلمة إغريقية تقابلها في العربية المصباح أو القنديل وكان فانوس المسحراتي ذو القاعدة الصغيرة والأبواب الكبيرة هو أول الأشكال ولم ينتشر بشكله المعروف، لكن عندما جاء الفانوس إلى السعودية، استخدمته النساء عند خروجهن من منازلهن، فكانت النساء لا يخرجن ليلا الا إذا تقدمهن صبي يحمل في يده فانوس، ومنذ ذلك العهد تم استخدام الفانوس في المملكة، وكان الأطفال يرددون الاغاني بادخال كلمة «وحوي» التي ترجع إلى المصريين القدماء، حيث كانوا يحتفلون ببداية الشهور القمرية ويطلقون على القمر «أيوح» في اللغة الفرعونية. وكان للفانوس دور كبير في حياة الطفل قبل ظهور التلفزيون. حول هذا المفهوم قالت الدكتورة عواطف إبراهيم أستاذة الاعلام بجامعة الملك عبد العزيز كان الفانوس وسيلة لتجميع الأطفال، فكانوا يدورون في حلقات الأغانى الرمضانية داخل الحواري الضيقة في مدينة جدة مما كان له أثر في اطلاق العنان لخيال الأطفال، وكان الفانوس دائما وسيلة لمعرفة أوقات الصيام والإفطار، فإذا كانت مضاءة فالطعام مباح، وإذا اطفئت أمسك الناس عن الطعام. وكان الوالي العثماني يصادر أكبر وأجمل فانوس من صاحبه ليرسل به كل عام إلى الاستانة. وأنواع الفوانيس التقليدية كثيرة فمنها الدلاية وتاج الملك وشق البطيخ والبرج. وهناك تطور كبير طرأ على صناعة الفوانيس التقليدية حتى تتواءم مع العصر، فبعد ان كانت تصنع يدويا في ورش صناعة الفوانيس مستخدمين الكاوية والقدوم والمقص، أصبحت تستخدم باترونات يتم القص عليها بأعداد كبيرة، والألوان اختلفت حيث كانت الألوان المستخدمة هي الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر وهي ألوان النيل والزرع والسماء والقمح، ثم دخلت الألوان الفوسفورية وتم تزيين الفوانيس بالزينة اللامعة وتم تطوير الشكل وأصبح أكثر اتقانا، وأضيفت اللمبة الكهربائية مكان الشموع خاصة في الفوانيس العملاقة التي يصل بعضها إلى مترين، وهي تحف فنية حيث ترسم نوافذ الفوانيس بالزخارف وصور للكعبة والآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى والأدعية وذلك لمواجهة منافسة الفوانيس المقلدة التي تلاقي أقبالا كبيرا من قبل الأطفال.
وفي جدة القديمة وتحديدا في باب شريف اشتهر تجار بيع الفوانيس، منهم الحاج إبراهيم بدوي وهو أقدم تاجر فوانيس في جدة الذي قال متحسرا على الايام الخوالي: الصين أغرقت الأسواق بمئات الأشكال من الفوانيس الجديدة، فانخفض سعر الفانوس الصفيح الصغير إلى ريال، واصبح لا يجد من يشتريه، يمكنكم ملاحظة ان الفوانيس مكدسة في الأقفاص، لا يشتريها الا تجار القرى ليبيعوها في الأسواق. أما الفوانيس الكبيرة فهي أكثر رواجا لإقبال الفنادق والمحلات التجارية والسائحين على شرائها، كما نقوم بيبع كميات كبيرة لبعض المطاعم تستخدم كديكور في تزيين مداخل الفنادق والمحلات خلال شهر رمضان.
هذا العام اردنا ان نواكب التطور الذي تشهده هذه الصناعة، فقد أضفنا إليه الساعة والرسوم الاسلامية والأشكال الهندسية والزخرفية الحديثة، وقد يصل سعره إلى ألف ريال.. فزوار مدينة جدة يقبلون على الفانوس بشكله التقليدي وألوانه القديمة.
ويؤكد عبد الله النووي ـ فنان تشكيلي بجمعية الثقافة والفنون ـ أن الفانوس كان وسيلة للإضاءة، والتطور الذي طرأ عليه حتى وصل إلى شكله الحديث طبقا للذوق الشعبي، فالتطور في الحواديت الشعبية يستمد أسسه من المناخ المحيط والفلكلور، فهو المأثور الحي من التراث القديم، وصانع الفوانيس يستفيد بكل ما في عصره ليضيفه للفانوس ليتواءم مع الروح الشعبية الجديدة، فأضاف لمبة أو صنعه من البلاستك بدلا من الزجاج. ويرى أن إقبال الناس على الفوانيس المستوردة سببه عجز في الصناعة، ويضيف النووي ان توظيف الفانوس للديكور بدلا من الإنارة قبل الكهرباء تطور طبيعي واستلهام شكل الفانوس الأصلي كرمز لشهر رمضان وزيادة الأشكال التي وصلت إلى 46 شكلا، ولم يعد الفانوس وسيلة للتسلية فقط بل أصبح الفانوس مشاركا أساسيا في الاحتفال برمضان كما سيظل الفانوس التقليدي يتربع على عرش الفوانيس.