الكلاب عندهم والبشر عندنا – فهمي هويدي
هذه قصة شغلت الرأي العام الفرنسي طوال الأسابيع الستة الأخيرة. فقد صبت فتاة متخلفة عقليا في الثانية والعشرين من عمرها وقودا سائلا على كلب يدعى وشلت حركته، وقام مراهق من ،« مامبو »
رفاقها بإضرام النار فيه على مرأى من الناس.
الفتاة اسمها أوريلى، والحادث وقع في 10 أغسطس الماضي في قرية صغيرة هي اسبيرا دولاجلى في جبال البيرينيه.
الخبر انتشر بسرعة البرق بعدما تناقلته على الفور الصحف المحلية ومواقع الإنترنت، وأصبح مصير الكلب مامبو بمثابة قضية مركزية في خطاب الجمعيات المدافعة عن حقوق الحيوان.
واعتبر تعذيبه نموذجا لسوء المعاملة الذي تتعرض له الكلاب الأليفة في فرنسا. فتحرك آلاف الفرنسيين للمطالبة بإحالة إلى القضاء، وإنزال العقاب « المجرمة »الشديد عليها.
وبادر الغاضبون إلى تنظيم حملة لجمع التوقيعات المؤيدة لذلك المطلب، وخلال أيام قليلة وصل عدد الموقعين على الحملة 11 ألف اسم، كان بينهم نجم الكرة العالمي زين الدين زيدان.
قدمت الفتاة أوريلى إلى المحاكمة،واستدعى إلى قاعة المحكمة الكلب مامبو الذي كان قد نجا من الموت، ولكنه أصيب بحروق وجروح غطت % 80 من جسمه. إذ أتوا به ملفوفا بالضمادات ليشهد جلسة محاكمة معذبته. كما احتشد في القاعة وممراتها أكثر من مائتي شخص جاءوا لمتابعة القضية.
وبعدما طالب الادعاء العام بإنزال أقصى عقوبة بالمتهمة، أصدر القاضي حكمه بسجن الفتاة لمدة ستة أشهر. أما شريكها فإنه سيحال إلى محكمة الأحداث نظرا لصغر سنه.
لم يرض الحكم ممثلي جمعيات الدفاع عن الحيوانات. وقال محامي مؤسسة (30 مليون صديق) التي اشتهرت بدفاعها عن الكلاب وممثل الادعاء بالحق العام: إنه كان ينبغي أن تكون العقوبة أشد. بحيث تصل إلى السجن لمدة سنتين مع غرامة قدرها 30 ألف يورو.
ذكرت التقارير الصحفية التي تابعت القضية، أن الكلب مامبو لا يزال يتلقى العلاج في إحدى العيادات البيطرية. وأنه يتأهب للانتقال إلى بيت صاحبته الجديدة، وهى صاحبة مطعم في القرية، تطوعت مع زوجها للاعتناء به، بعدما عثرت عليه هائما في الشوارع غداة الاعتداء عليه.
استوقفتني القصة من عدة زوايا.
ذلك أن موروثنا الثقافي حافل بالنصوص والفتاوى التي تعارض بشدة تعذيب الحيوانات. وثمة حديث نبوي ذكر أن امرأة دخلت النار لأنها عذبت قطة، وآخر بلغ عن رجل دخل الجنة لأنه سقى كلبا كان يتلوى من العطش.
أهم من ذلك أن نصوص القرآن تحدثت عن عالم الحيوان على أنه يضم أمما (أمثالكم) وأشارت إلى أن المخلوقات جميعا تتعبد لله (ولكن لا تفقهون تسبيحهم )
أعنى أن لدينا مرجعية غنية بالتعاليم التي تدعو إلى احترام حقوق الحيوان، وتحث على الحفاظ على كرامته حتى في ذبحه للحاجة أو الضرورة.
من ناحية أخرى، فإن احترام أولئك الغربيين لحقوق الحيوان جاء بعدما استقرت ضمانات حماية حقوق الإنسان، الأمر الذي يصور بعد الشقة بيننا وبينهم، ذلك أن سجلنا في مسألة حقوق الإنسان لا يشرفنا في شيء. وهو ما يجعل فتح ملف حقوق الحيوان عندنا من قبيل الترف الممجوج.
من ناحية ثالثة. فإن المرء لا يستطيع أن يخفى دهشته إزاء تلك الحساسية المفرطة لدى الفرنسيين والأوروبيين عامة إزاء حقوق الحيوان، في حين أنهم يتعاملون بعدم اكتراث شديد مع آلام البشر ومجاعاتهم في العالم الثالث، خصوصا في القارة الأفريقية التي يموت الناس فيها من الجوع والعطش. وتتناقل وسائل الاتصال المختلفة صورهم وأخبارهم دون أن يجد ذلك صدى في العالم الغربي. وهو ما يؤكد الادعاء الشائع عن تأثر المجتمعات الغربية بثقافة التفوق العرقي، التي جعلت غيرتهم مقصورة على حقوق الإنسان الأبيض دون غيره، بمظنة أنه الأحق والأجدر بها. وهى ملاحظة أسجلها على استحياء، لأن الأصل عندنا أن الكرامة حق لكل البشر، بمقتضى النص القرآني، إلا أن إهدارها الحقيقي وقع في ديارنا أكثر من أي مكان آخر، حتى بات غاية أملنا أن يتوقف تعذيب البشر، لأن الكلاب لها من يعتني بها.
............ ......... .......