خلف أسوار المستشفى هناك آلاف القصص المأساوية لأطفال في عمر الزهور"مستشفى أبو الريش".. مقصد الفقراء غير القادرين على علاج أطفالهم في
العيادات الخاصة أو المستشفيات الاستثمارية، يتوافدون عليه أكثر من مليون
ومائة طفل سنوياً؛ بحثاً عن أي أمل في شفاء أطفالهم الأبرياء، ولكن خلف
أسوار المستشفى العالية وعلى أعتاب أبوابها هناك مئات بل آلاف من القصص
المأساوية لأطفال في عمر الزهور، كل قصة تعبّر عن وجود خلل في منظومة
المجتمع الذي يدهس مساكينه، ويحكم على فُقرائه بالإعدام.
ذهبت إلى المستشفى، وعايشت العديد من القصص التي تنفطر لها القلوب، لعلها تصل إلى
أي مسئول يحتفظ في قلبه بقليل من الرحمة لإنقاذ الأطفال الأبرياء من براثن
المرض، بعد أن نهشهم الفقر والتجاهل.
يتردد "عبد الله" على المستشفى يومياً بعدما أكّد الأطباء حاجته لعملية "زرع نُخاع" عذاب "عبد الله" في "أبو الريش""عائشة الجابري" (فلاحة) جاءت من إحدى قرى محافظة الغربية، حاملة طفلها الوحيد
"عبد الله" على كتفيها، بعدما أصيب بمرض غريب، لم تعرف عنه شيئاً، لتُصاب
الأم -ومعها زوجها- بالصدمة حُزناً على ابنهما، خاصة أنهما من فئة
الفقراء؛ فالأب والأم لا يمتلكان سوى صِحتهما التي تُعينهما على العمل
بالأجرة في حقول القرية، وهو ما منعهما من التوجّه لعلاج الطفل عند أطباء
العيادات الخاصة، فلم يجدا أمامهما سوى مستشفى "أبو الريش".
دخل "عبد الله" -الذي لا يتجاوز عُمره 10 سنوات- إلى المستشفى وترك مدرسته؛
ومكانه في الفصل خالياً من أجل رحلة، ولكنها ليست رحلة ترفيهية، بل رحلة
من العذاب، فمنذ عامين وهو محروم من اللعب مثل أقرانه من الأطفال، ويتردد
على المستشفى يومياً، بعدما أكّد الأطباء أنه يحتاج إلى عملية "زرع
نُخاع"، وأن هذه العملية لا يتم إجراؤها في مصر بل في أوروبا، وتكلفتها
أكثر من 400 ألف جنيه.
ذاق الوالدان العذاب منذ مرض طفلهما، واضطرا إلى بيع ما يمتلكانه من حُطام الدنيا للإنفاق على علاج ابنهما في
المستشفى، فيقطعان عشرات الكيلو مترات يومياً للحضور إلى "أبو الريش"؛ تلك
المستشفى التي لم يجدا فيها ما يُنقذ ابنهما من المرض اللعين، ولكن وجدا
الروتين في صرف الأدوية، مما اضطرهما لشرائه على حسابهما من الخارج،
وكلّفهما الأمر أكثر من 20 ألف جنيه، علاوة على مشقة البحث عن سرير لإقامة
ابنهما تحت مُلاحظة الأطباء.
في النهاية خرج الوالدان ومعهما طفلهما من المستشفى، بعدما يئسا من إيجاد العلاج، لتُصاب الأم بالعمى من
كثرة البُكاء على حاله، ويُصاب الأب بالاكتئاب الشديد، بعدما ضاعت صحته
حُزنا على "عبد الله" الذي يعيش بين الحياة والموت في انتظار نظرة رحمة من
المسئولين تُنقذه من آلامه.
الأطباء غائبون في "أبو الريش"
الأطباء غائبون والممرضات يُحوِّلن المرضى لفئران تجارب
أمام المستشفى يتواجد مئات من السيدات والرجال يحضرون من كافة محافظات
الجمهورية لعلاج أبنائهم في المستشفى؛ ومنهم "سيد العشري" والذي أصيبت
طفلته " نادية" (6 سنوات) بحروق شديدة في ظهرها، بعد سقوط ماء مَغلي على
جسدها أثناء انشغال أمها بإعداد الطعام.
أسرع "سيد" حاملاً ابنته إلى مستشفى "أبو الريش"؛ لأنها الأقرب لمسكنه حيث يُقيم بمنطقة السيدة
زينب، وبمجرد وصوله للمستشفى لم يجد من يُسعِف الطفلة لغياب الطبيب
المُختص عن الحضور، وعدم وجود بديل له؛ مما اضطره إلى اللجوء إلى إحدى
المُمرضات لإنقاذ ابنته، ولكن المُمرضة زادت الأمر سوءاً، فقد أصيبت
الطفلة بمُضاعفات خطيرة جعلت الأب يُصاب بحالة هيستيرية، حتى تم استدعاء
أحد الأطباء، والذي طلب من الأب أن يشتري له أدوية من الصيدليات الخارجية
بقيمة 300 جنيه، وبعد أن قام بالكشف على الطفلة طلب عدم بقائها بالمُستشفى
لمجرد أنه نسي البطاقة الشخصية الخاصة به، ولم يرحم بكاءه، وقام بطرده،
فلم يجد أمامه سوى الجلوس على رصيف المُستشفى وابنته تنزف دماً، حتى حضر
أحد أبنائه بالبطاقة من البيت للدخول مرة أخرى لحجز الطفلة.
"نفيسة" استنجدت بـ "أبو الريش" لعجزها عن علاج طفلها في أي مستشفى آخر
العلاج المجاني.. مجرّد وهمتنقّلت في طُرقات المستشفى؛ وفي الدور الثالث بها وجدت سيدة تحمل ابنها الرضيع
وتبكي بحرقة شديدة، عندما اقتربت منها أشارت إلى أنها حضرت من محافظة
الفيوم، بعدما أصيب ابنها "بالصَفراء" فور ولادته، وبالرغم من أنها تَحضر
للمستشفى منذ ثلاثة أيام فإنها لم تجد مكاناً شاغراً لرضيعها بالحضـانات،
علاوة على تجاهل الأطباء لبكائها وتوسّلاتها لإنقاذ الرضيع، ويطلبون منها
الحضور للكشف على الطفل في عياداتهم الخاصة، حتى يستفيدوا من ثمن الكشف.
السيدة وتُدعَى "نفيسة" استنجدت بمستشفى "أبو الريش" لعجزها عن علاج طفلها في أي
مستشفى آخر؛ لأنها لا تعمل، وزوجها أيضاً؛ فهو مُصاب بعجز في قدميه أقعده
عن الحركة، واعتقدت أن العلاج سوف تحصل عليه مجاناً، ولكنها فوجئت أن
الأطباء يطلبون منها تحاليل وعلاجات قيمتها أكثر من 700 جنيه من خارج
المستشفى، وهو مبلغ تعجز عن توفيره بالطبع؛ لأنها بالكاد تُوفّر نفقات
مواصلاتها من الفيوم للقاهرة يومياً، ولا تدري متى سينتهي عذابها وعذاب
ابنها؟
تضارب التشخيصات في استقبال المستشفى التقيت مع "أحمد حسان" والذي يحضر من أسيوط بصفة
أسبوعية لمتابعة حالة طفله "يحيى" (9 سنوات) المريض بتشوّهات واضحة في
قدميه؛ نتيجة الولادة الخاطئة على يد الداية، وبالرغم من أن الأطباء
أكّدوا إمكانية علاجه، فإنه طوال هذه المدة -ومنذ ولادة الطفل- والأب
يتردد على المستشفى دون نتيجة، خاصة مع تضارب التشخيصات، حتى أن أحد
الأطباء صرف دواءً كاد أن يقضي على حياة الطفل، الذي ماتت أمه أثناء
ولادته.
الأب باع أرضه من أجل علاج ابنه، لكن دون جدوى، وفي
النهاية -وبكل بساطة- أخبره الأطباء أن الحالة ليس لها أي علاج، خاصة بعد
أن كبر عمره، وأنه كان من الممكن أن يتم العلاج عقب ولادته مباشرة.
هناك بعض الأجهزة في أقسام الأطفال حديثي الولادة تحتاج إلى إحلال وتجديد القلب.. دمّر حياة "شريف"قصة أخرى استمعت إليها من الطفل " شريف" (7 سنوات) والذي وجدته راقداً على
السرير -بدون حركة- فهو مُصاب بثقب في القلب، ويُعالج في المستشفى منذ 3
سنوات، قال: "كان نفسي أدخل المدرسة زي أصحابي، اللي كنت بالعب معاهم في
شوارع قريتنا بالمنوفية".
وأضاف: أحضرتني أمي إلى المستشفى،
والممرضات والأطباء يرفضون أن تُقيم بجواري مُعظم الأيام، بحجة عدم وجود
سرير خالٍ لها، وتضطر إلى النوم على الأرض.
"شريف" أشار إلى أنه يتمنّى الخروج من المستشفى بأي طريقة والعودة إلى المنزل، ليكون وسط إخوته وأصدقائه.
ميزانية المستشفى ضعيفة
حملت كل هذه المشاكل، وتوجّهت إلى الدكتورة "ماجدة بدوي" -مدير المستشفى- والتي
قالت إن الأزمة في ضعف الميزانية، وأشارت إلى أن المستشفى يستقبل أكثر من
مليون ومائة طفل سنوياً، والعيادات الخارجية تستقبل 3000 طفل يومياً، في
حين أن الميزانية المخصصة لا تزيد على 7 مليون جنيه، ونحتاج إلى ضِعف هذه
الميزانية لاستيعاب كل المرضى، ونضطر إلى الاعتماد على أموال التبرّعات،
وتكون تبرعات عينية في شكل أجهزة.
وقالت: المستشفى الياباني في
الأساس تم إنشاؤه بواسطة منحة يابانية قبل 15 عاماً؛ لاستقبال الحالات
الحرجة والمستعصية فقط، وإمكانياتها على قدر ذلك، ولكن يلجأ إليها الآباء
والأمهات حتى لو أصيب طفلهم بنزلة برد، وهو سبب الزحام في المستشفى،
وأظهرت بعض السلبيات؛ فالجهاز الواحد الذي تقدّر طاقتها بعشرة أفراد مثلاً
يعمل في علاج 100 طفل كل يوم، ولذلك نسعى لإنشاء مبنى جديد، مع العلم أن
المستشفى يتكوّن من ثلاثة مراكز تكمل بعضها البعض؛ الأول هو الأساسي
بالمنيرة، والثاني هو المستشفى الياباني، والثالث هو مركز الطب الوقائي.
واعترفت بأن هناك بعض الأجهزة، خاصة في أقسام الأطفال حديثي الولادة تحتاج إلى إحلال وتجديد ولكن هذا مكلِّف للغاية.
هناك الكثير من هذه القصص المأساوية التي التقيتها بالمستشفى، أبطالها.. أطفال
ضاعت أحلامهم البريئة، وضاع معها الأمل في الشفاء؛ بسبب الإهمال في تقديم
الخدمات العلاجية، خاصة في المستشفيات الحكومية، وليضرب المواطن الفقير
رأسه في أقرب حائط، طالما أنه لا يمتلك ثمن علاج ابنه في هذا البلد!