قصة جميلة بعد ما تقرأها ها تغير كتير من افكارك
القصة يرويها د. محمد الباجس واليك نصها:
مازالت وقائع ذلك اليوم ماثلة كأنها جرت بالأمس.. ربما لغرابتها من جراء تشابك الكوميديا بالتراجيديا أو الملهاة بالمأساة.. ثم تداعيات ما جري وتوابعه.. وإن كان الأرجح هو أن تلك الوقائع تكررت وتتكرر حتي اليوم بكل تفاصيلها ودلالاتها وكأنها أصبحت قانونا حاكما.. تسير بمقتضاه أمور، وتتحدد مصائر وتتخايل علي البعد ملامح المستقبل.
كان النقاش محتدما داخل لجنة الاستماع بمجلس الشعب حول مستقبل العمل السياسي في مصر.. ذلك النقاش الذي بدأ أواخر عام ٤٧٩١ ووضع السادات حدا له في عام ٦٧٩١ عندما اعلن عن قيام المنابر.. اليمين واليسار والوسط تعبيرا عن الاتجاهات السياسية السائدة في مصر كما رآها هو وقدٌرها.كنت علي موعد مع صديق وزميل يعمل أستاذا في جامعة إقليمية شهيرة يوم ألقي السادات خطابه الذي اعلن فيه قيام المنابر.. واختار منبر الوسط معبرا عن خطه السياسي ووضع علي ر أسه رئيس وزرائه وقتها قبل أن يعلن نفسه رئيسا له فيما بعد.. وقد تحول إلي حزب سياسي مازال يحكم حتي الآن.
كان صديقي علي صغر سنه أثيرا لدي رئيس الجامعة الذي أعجب به.. واعتمد عليه.. وجعله مستشارا له يصرٌف كثيرا من أمور الجامعة.. ويتردد عمداء الكليات والأساتذة علي مكتبه الكائن في مبني إدارة الجامعة بين مكتب رئيسها.. والقاعة المخصصة لاجتماعات مجلسها.
حاولت أن اعتذر لصديقي وانصرف.. إذ كان موزعا بين مكتبه وقاعة الاجتماعات التي كانت تغص بالعمداء والأساتذة.. جلوسا ووقوفا.. وقد ترك بابها الواسع مفتوحا علي مكتب صديقي ليصبح جزءا منها.. ولكنه غمز إليٌ بالبقاء.. لأري واسمع.
هب رئيس الجامعة واقفا متأففا من حرارة الجو رغم أجهزة التكييف ثم هم بخلع الجاكيت، فعاونه من يقف خلفه وحمله عنه ليتناوله منه سكرتيره الذي يقف علي مقربة من الاجتماع.. ويختفي به.. همس صديقي ملمحا للواقف من خلفه: وكيل كلية العلوم ح يموت ويبقي عميد.
كان رئيس الجامعة ربعة ممتلئ الجسم يتقدمه كرش كبير يضيق به القميص الواسع.. تنم ملامحه وقصة شاربه عن فطرة ريفية.. تنفر من التصادم.. وتنحني للريح.. وترتجي الستر في الدنيا والآخرة.. عدل من وضع نظارته الطبية ونقر علي اجندة امامه بقلم في يده.. وقال: البرقية بتاعتنا لازم تكون أول برقية توصل للرئيس.. دي ح يكون لها معني كبير قوي.. وتأثير جامد.. ما احنا عارفين إيه اللي حصل لجامعة اسكندرية لما بعتت أول برقية تأييد لثورة يوليو.. فضلت ع الحجر للنهاردة.. وكل طلباتها مجابة..
كان أول من تكلم د. عبدالمنعم الأستاذ بكلية الآداب.. كنت أعرفه من صوره التي تنشر بجوار مقالاته المعارضة في بعض الصحف.. وما يتناثر عنه من اخبار.. وكان قد استبعد من الجامعة وأعيد إليها لايقاف اللغط الذي صاحب ذلك.. قال: ازاي ح نأيد المنابر التلاتة.. وهي أصلا متعارضة ومعروف ان الوسط هو منبر الرئيس، واليمين واليسار معارضة؟
زفر رئيس الجامعة ضائقا.. ثم هز رأسه بأسي وقال: أمرك عجيب يا دكتور عبدالمنعم.. الراجل قدم لنا تلات حاجات.. نقول له موافقين علي واحدة.. والاتنين التانيين لأ..؟!
رد د. عبدالمنعم: ما أقصدش كده طبعا سيادتك لو سألت الموجودين هنا ح تلاقي وجهات نظر مختلفة.
قاطعه رئيس الجامعة: والله ما حد مختلف غيرك يا دكتور.. ولو دخلنا في سكتك دي لا ح نكتب ولا نخلص النهاردة ولا بعد شهر.
قال د.عبدالمنعم بحسم: إذا كانت دي وجهة نظرك يبقي اعتذر و..
وقاطعه رئيس الجامعة: تبقي عملت خير.. ونفسك معانا برضه.
لملم د. عبدالمنعم أوراقه.. وانصرف بين صمت الجميع.. وعندما مر بي حدجني بنظرة ساخطة عرفت منه فيما بعد أنه كان يظن أنني مندوب الأمن لمراقبة الاجتماع..
تململ رئيس الجامعة كمن تخلص من عبء وانفرجت شفتاه عن ابتسامة شاحبة: حد تاني عايز يختلف.. ويتفلسف.. ويوقف حالنا؟
تتاثرت بعض الضحكات هنا وهناك.. وهتف الواقف من خلفه: النماذج دي موجودة في كل حتة يا ريس.. قال الريس دون أن يلتفت: أنت واقف بعيد ليه عبدالباسط.. تعالي أقعد هنا.. وأشار أمامه.. فأفسح له الجالسون مكانا حشر فيه السكرتير مقعدا ليجلس الدكتور عبدالباسط أمام رئيس الجامعة مباشرة.. همس صديقي د. فاروق ناحيتي: يبقي ضمن العمادة.
قال رئيس الجامعة: لغاية اللحظة دي ماعلمناش حاجة.. عايزين نخلص يا جماعة.. قبل ما حد يسبقنا.. كلمتين حلوين كده.. نشكر الراجل علي حكاية المنابر دي.. ونقول له احنا وراك ومعاك في كل اللي تقوله.. واللا عايزينا نرجع للاتحاد الاشتراكي تاني؟
قال عبدالباسط: تمام يا ريس.. وتلفت حواليه عايزين أهل البلاغة والأدب النهاردة يومهم.. والحكاية مفسرة نفسها.. اليمين.. واليسار.. والوسط.
هز رئيس الجامعة رأسه موافقا وقال: والله يا جماعة الراجل ده مخلص.. وبيحب الخير للبلد.. وما شاء الله عليه.. لخص الحكاية كلها في تلات كلمات: لا خطب.. ولا طنطنة.. ولا كلام كتير.. المهم نخلص احنا.. 'ثم نظر في ساعته' ده احنا بقينا الضهر.. وانتصب واقفا.. أنا علي وضوء.. اللي موش متوضي لسه قدامنا للعصر.. رفع سكرتيره سجادة الصلاة فانتزعها منه عبدالباسط ولحق برئيس الجامعة الذي كان يحمل أجندته وقلمه ويتحرك متفكرا مشغولا يردد: اليمين.. واليسار.. والوسط.. ثم نظر إليٌ وهتف لصديقي: خليك معانا يا فاروق.. ثم تراجع في خطوات متأنية حذرة.. وظل يتحرك وخلفه عبدالباسط حامل السجادة.. توقف أمامي متمتما بالكلمات الثلاث.. وهو ينظر إليٌ دون تركيز.. معيدا ترديد الكلمات.. ثم ارتفع صوته كأنه يخاطبني قائلا: اليمين.. قلت دون أن أقصد: اليمين من اليمين.. توقف الرجل كمن عثر علي كنز وصاح: الله يفتح عليك.. أهو جابها.. اليمين من اليمن. عايزين الباقي.. وراحت عيونه تتجول بين الجالسين والواقفين.. ثم ركز بصره نحوي.. كان رجلا طيبا يجبرك علي التعاطف معه والتطوع لمعاونته قلت: واليسار من اليسر.. صاح: تسلم.. ويسلم لسانك.. مين ده يا فاروق؟ همس فاروق بعد أن اقترب منه.. يعرفني.. صاح الرجل: ده لازم يبقي معانا.. موش زميلك وصاحبك.. أهو ده اللي احنا محتاجينه.. همس له فاروق بأنني لم احصل إلا علي الماجستير.. صاح: تقصد الدكتوراه.. نديهاله يا سيدي.. يعني جيت في جمل.. ده احنا عندنا ناس هنا خدوا الدكتوراه وبقوا أساتذة ماحدش مالي عنيهم.. وهمه يا مولاي كما خلقتني.. الواحد منهم يا دوب يعرف ييجي ويروح.. ويقبض..نديهاله يا أخويا.. ثم نظر إلي عبدالباسط حامل السجادة: ريح أنت يا عبدالباسط.. لسه قدامنا للعصر.. والحكاية سلكت خلاص.. ثم نظر في عيني: تسلم.. انت كنت فين م الصبح.. كمل جميلك.. اليمين من اليمن.. واليسار من اليسر.. قلت كالمنوم: وخير الأمور الوسط..
كاد رئيس الجامعة يرقص طربا.. هجم عليٌ فقبلني وسحبني من يدي لأجلس إلي جواره في الاجتماع هاتفا: ربنا بعت لنا الراجل ده النهاردة.. عرفتو ليه أنا باحب فاروق؟ أهو ده صاحبه الروح بالروح.. وإن شاء الله يبقي معانا علي طول.. ثم تلفت حواليه: المفاتيح كلها بقت معانا.. نكتب بقي.. ثم فتح الاجندة وبدأ يكتب: الأول.. بسم الله الرحمن الرحيم.. ثم تلفت حواليه.. هه.. وبعدين؟، قال عبدالباسط: السيد الرئيس القائد.. صاح رئيس الجامعة: بلاش دي يا عبدالباسط.. خليهم يشبعوا بيها..بتوع سوريا.. والعراق.. وليبيا.. آل إيه؟ الرئيس القائد المعلم.. خليها لهم يا سيدي..
وبهدوء تحدث أحد العمداء الذي كان جالسا يتأمل.. ولم يشارك: الزعيم الخالد.. انتفض رئيس الجامعة: يا أخي فال الله ولا فالك.. دي الملافظ سعد.. ثم استدار ناحيتي يطلب العون.. قلت: السيد الرئيس المؤمن.. صمت الرجل.. وخيم الصمت.. قال بانفعال: الله في سماه ما افرط فيك أبدا.. حضٌر ورقة يا فاروق.. تسجيل الدكتوراه.. وموافقة الجامعة علي نقله من بكرة.. ح آخد الطلب وأروح بنفسي للوزير بتاعك.. أنت م النهاردة معانا.. معانا..
رفع بصره إلي صورة السادات.. وهمس: الراجل ده موش بسيط يا جماعة.. ده اتلطم كتير.. ويعرف العفريت مخبي ابنه فين.. ويقدر كل كلمة.. يعرف جاية منين ورايحة فين.. وأقل كلمة ترفعك للسما.. وأقل كلمة تخسف بيك الأرض.. ثم صاح: يا فاروق.. السفرية بتاعتي لباريس العشرة أيام.. أنا متنازل لك عنها. عشان الهدية اللي جبتها لنا النهاردة.. بس بعد ما تخلص ورقه اللي قلت لك عليه.. ابتسم فاروق ممتنا.. وهمس: ربنا يخليك يا ريس.
جلس رئيس الجامعة محتشدا.. يقرأ بصوت عال صيغة البرقية التي استقر الرأي عليها.. وسط الصمت والاهتمام.. بسم الله الرحمن الرحيم.. السيد الرئيس المؤمن محمد أنور السادات.. تعددت أفضالك.. وعظمت أعمالك.. وكنت وستظل بإذن الله البلسم لكل جراحنا والشفاء لكل أوجاعنا.. ومناط الآمال.. وقاهر المحال. ومنحتك الجديدة في العيون والقلوب والعقول.. حيث اليمين من اليمن.. واليسار من اليسر.. وخير الأمور الوسط.. دمت لشعبك الذي يقدر التراب الذي تمشي عليه.. ودمت لمصر التي انتظرت مقدمك حقبا وأجيالا.. ومتعك الله بطول العمر يا سادس الخلفاء الراشدين.
لكزني فاروق متعجبا.. أنت ضبطت نفسك ع الموجة بتاعتهم ازاي؟ لم أرد.. لكزني مرة أخري.. فقلت: كان الرجل يغرق.
لم تمر غير شهور قليلة حتي اجريت انتخابات مجلس الشعب التي تنافست فيها المنابر.. وحصد منبر الوسط كل مقاعد المجلس.. ولم يحقق اليمين والوسط غير عدة مقاعد هنا وهناك تقل عن أصابع اليدين.. مضافا إليها عشرة مقاعد بالتعيين شغل اكثرها بعض الرموز القبطية التي اختارها السادات بعناية ليعلن بعدها عن تشكيل وزارة جديدة.. وصفها السادات بأنها الوزارة المناسبة لظروف مصر الراهنة.. بعد تجربة المنابر التي مثلت فتحا مبينا للديمقراطية.. تمهيدا لعصر جديد.. ينبذ الانغلاق.. ويفتح كافة الأبواب والنوافذ والعقول وصولا إلي العصر السعيد.. عصر الانفتاح وعدٌد السادات أسماء الوزارة الجديدة.. كان اسم رئيس الجامعة الخامس بين الوزراء.. وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي.. وقد توقف عنده السادات ووصفه بالعالم الفاضل الذي تصدي لللأراذل.. وتحمل مسئوليته بشرف.. وكان نموذجا ومثلا في الاخلاص لمصر.