د. بليغ يكشف أسرار حوار قادة الإخوان مع طلبة الأزهر
د. محمد بليغخرجنا من باب الزنزانة تسبقنا دموعنا وذكريات عام ونصف العام نراها بين أعيننا، تارةً نتقدم خطوةً ونتراجع أخرى، ناظرين خلفنا لعلنا نستطيع أن نصطحب إخواننا في أيدينا، وتارةً نمشي سريعًا حتى ينقضي هذا المشهد الحزين، أو لعل الزمان يعود بنا يومين إلى الوراء لينطلق حكم البراءة عاليًا يدوي بين جدران المحكمة فتصرخ الجدران بالتكبير فرحةً متهللةً بالعدل الذي عم أرجاءها، ونهوي على الأرض سجدًا نحمد المولى القدير الذي جعل لنا مخرجًا، لكن هذا لم يحدث، فقد خرج كل منا تاركًا خلفه جزءًا من نفسه، وبحثتُ في نفسي وبحث كل منا في الجزء الباقي من نفسه فلم يجد به مكانًا لفرحة الخروج، فبعد أن ودعنا إخواننا بنشيد الله غايتنا، رحلنا وكأننا ننسلخ من جلودنا أو نقتلع من جذورنا، وكم كنت أتمنى أن أنتظر معهم لبضعة أيام أخرى حتى تهدأ الأنفس وتستقر الأمور.
بهذه المشاعر وصف لنا الدكتور محمد بليغ، أحد الأربعين المحالين للقضاء العسكري بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان، حاله وحال إخوانه الذين حصلوا على أحكام البراءة في لحظات تنفيذ الأحكام.
الدكتور بليغ حمَّلنا في حوارنا معه رسالةً من إخوانه الأحرار خلف القضبان لإخوانهم المعتقلين خارجها مضمونها "نسألكم جميعًا الثبات والاستمرار في طريق الدعوة، فعلينا ألا نخرج من هذه المحنة بالركون إلى الدنيا أو الخوف والميل إلى الدعة، وألا نترك طريق الإصلاح والدعوة، نوصيكم جميعًا بالثبات والاستمرار على منهج الله وعلى فكر الدعوة في الجماعة والاستمرار في مكافحة الفساد.
كما حملنا برسالة منه شخصيًّا قال فيها: "أنتم أفضل مني وقد اصطفاكم الله وأساله تعالى أن يثبتكم ويربط على قلوبكم، فأنتم تعيشون الآن اصطفاءً من اصطفاء، وكل ظلم لا بد له من نهاية، وقد شاء الله لنا أن نخرج بقرارٍ من إنسان سبقه قرار إلهي، وقد سخر الله لنا هذا الإنسان ليكون سببًا، والله قادر على أن يستبدل كل هؤلاء البشر، وقادر على أن يخرجكم جميعًا بدون استئناف أو قرار إداري أو نصف المدة أو... أو... فالثبات الثبات".
ومن بين هؤلاء الإخوان وجه د. بليغ رسالةً خاصةً للدكتور محمود أبو زيد- أخو زوجته- قائلاً: "حقيقةً أنك يا محمود تستحق ذلك، فهذه منحة لا ينالها إلا مَن يستحقها، وأنت بالفعل أفضل مني ومن كثيرين، فقد عرفتك شخصًا ذا دين وخلق عالٍ جدًّا، هكذا عرفتك من قبل الاعتقال ومن بعده مثالاً للشخص الملتزم والمؤدب الذي يتمتع بجميع سمات الذوق والخلق الرفيع، وقد أضاف لك الإسلام كثيرًا من الجوانب الطيبة، فأنت شخصية عظيمة. د.محمود أبو زيد
ولذلك فإن حصولك على البراءة لم يكن ممكنًا، وكنا سنشعر جميعًا أن هناك أمرًا ما خطأ، فمن أراد الله به خيرًا زاد له البلاء، فالبلاء يزيد من قدر الإنسان عند ربه، وقد كنت أراجع نفسي فقلت لعل الله استشعر مني توقف صبري عند هذا القدر، ولو زاد فقد يأتي بنتيجة عكسية مما جعلني أشعر بضآلة حجمي مقارنةً بإخواني الذين حصلوا على أحكام، وجعلني أشعر كذلك أنني لست أهلاً لهذا الاصطفاء، فالبراءة ليست ميزةً بل على العكس الذين حصلوا على الأحكام هم جميعًا أفضل مني. فالله يعلم منكم أنكم أكثر مني صبرًا وأعظم قدرًا عنده سبحانه وتعالى".
ثم وجَّه رسالته لأسرته قائلاً: أبدأ بزوجتي التي وقفت بجانبي وقفةً كبيرةً جدًّا هي أهل لها فكانت من أهم عوامل ثباتي، فالإنسان يستمد الثبات من أقرب الناس إليه، فكنت كلما رأيت ثباتها وقدرتها على التحمل ازددتُ ثباتًا؛ لأن ذلك يُعطيني شعورًا بالراحة والأمان، وكنتُ عندما أرى أسرتي بخيرٍ يهون مع ذلك كل شيء، وأنت يا أحمد كنت بحق رجل البيت فقد كنت تقوم بكل ما نكلفك به أنا ووالدتك على أكمل وجه، وكذلك أنتِ يا فاطمة وأنتِ يا رقية.. استطعتم جميعًا أن تنجحوا في الاختبار وأن تتجاوزوا المحنة، إنني سعيد بهذه التجربة التي أضافت لنا الكثير وأظهرت لي معدن أولادي الأصيل، ومن قبلهم زوجتي التي كنت أعرفها جيدًا لكن التجربة رفعت قدرها كثيرًا عندي وعند الناس جميعًا، وازددتُ إحساسًا بفضلها عليَّ وعلى الأولاد بعد فضل الله سبحانه وتعالى".
وتابع برسالةٍ للنظام المصري قائلاً: "لا بد من إعادة النظر في التعامل مع قوى المعارضة الموجودة في المجتمع المصري بشكلٍ عام، وبالطبع لا أعني قوى المعارضة الهدَّامة، لكن أعني القوى التي تدعو إلى الإصلاح، يجب أن يكون التعامل معها فكريًّا وحواريًّا، على أساس المشاركة وليس على أساس القمع والإقصاء، فبالرغم من استخدام النظام لأسلحة الاعتقال والتغييب في السجون وإصدار الأحكام القاسية، فإن الإخوان لم يلجئوا إلى العنف، لكنهم سيستمرون في مسيرتهم الإصلاحية بالطرق الشرعية حتى يرفعوا هذا الظلم، ورغم محاربتهم القاسية إلا أنهم ماضون في مشروعهم الحضاري النهضوي لبناء المجتمع.
وكانت رسالته الأخيرة موجهةً إلى الجيل الصاعد من شباب الإخوان حيث قال: عليكم بالنظر لهذه التضحيات التي تقدمها قيادات الجماعة، الذين قدموا الكثير من أوقاتهم وأعمارهم ومستقبل أسرهم من أجل هذه الدعوة، ومن أجل هذا البلد وألا تنظروا لخبراتهم على أنها فكر قديم، فقنوات الجماعة مفتوحةً للحوار وللحديث ولإبداءِ الآراء والأفكار، وليست هناك فجوة أو انقطاع في التواصل أو تناقض، وهذا ما لمسناه بالفعل، فعلى الرغم من الفارق الكبير في السن بيننا وبين الأستاذ مهدي عاكف إلا أنه لم تحدث بيننا أي فجوة، رغم وجود الإنترنت والفضائيات في عصرنا وتوقف وسائل الاتصالات في عصرهم عند المذياع، ومع ذلك لم يحدث تصادم أجيال، وهذا ما نصبو إليه بيننا وبين الأجيال الصاعدة، فعليهم ألا يلتفتوا إلى الآراء الهدامة التي تدعي وجود ديكتاتورية في الجماعة.. وفيما يلي يستكمل "إخوان أون لاين" تفاصيل الحوار الخاص مع الدكتور محمد بليغ:
* بدايةً يا دكتور كيف تقرأ التناقض الواضح في موقف النظام المصري الذي يُكرِّم علماءه وفي نفس الوقت يعتقلهم ويعرضهم للمساءلة القانونية؟
** بدايةً أحب أن أوضح أن نقطة التكريم هي نقطة مهنية بحتة لا دخل للسياسة بها، حيث تختار نقابة الأطباء الطبيب المثالي وفقًا لعدة عوامل مبنية على أسس مهنية، ويُضاف إليها عدة عوامل أخرى مثل الأخلاق والسلوك مع الرؤساء والمرؤوسين والزملاء والمرضى، ومن هنا يتضح التناقض فكيف يكرم شخص لأنه فعَّال وإيجابي على المستوى المهني والاجتماعي مما يعني أنه ذو طابعٍ خدمي لمؤسسته الطبية وأي مؤسسة أخرى يعمل بها، وفي نفس الوقت يحال للقضاء؟ وليس أي قضاء!! بل قضاء عسكري مما يعني أن هذا الشخص له من الحيثيات ما يجعله شخصًا ذا خطورة وله وضع معين يقتضي أن تتم إحالته إلى هذا المستوى من القضاء، فهل يوجد شخص يمتلك من التناقض أن يكون صاحب فكرٍ هدام يُعطِّل الدستور ويسعى لتخريب مؤسسات الدولة ومتفرغ لأعمال تخريبية وإفسادية في المجتمع ويعمل على هدم الكيان الشرعي للدولة وفي نفس الوقت متفوق في العلم وفي دراسته ومتفوق في مجال عمله؟!.
تهم عجيبة
* أشرت في حديثك إلى الاتهام بالتخريب والإفساد وهدم مؤسسات الدولة، فهل هذه هي التهم التي وجهت إليكم؟
** التهم التي وجهت إليَّ هي الانضمام لجماعةٍ محظورةٍ أسست على أحكام تناقض الدستور واستعملت الإرهاب لتحقيق أهدافها واستدلت المحكمة على ذلك بأحداث جامعة الأزهر التي ادعت أن الجماعة تقف وراءها، حيث قام الطلبة بعرض مسرحي أطلقت عليه المحكمة فيما بعد اسم عرض عسكري ووصفته بالميليشيا، فالعرض لم يتجاوز كونه عرضًا فنيًّا وقد سبق عرضه مرارًا وتكرارًا لنصرة إخواننا في حماس والقضية الفلسطينية بوجه عام لكن العرض تم توظيفه من قِبل الإعلام ولحشد الرأي العام والادعاء أنها ميليشيات خارجة عن القانون وتريد أن تفرض سيطرتها بالقوة على مجتمع الطلبة والجامعة.
ثم زج بنا في القضية بالرغم من إنني طبيب أعمل في معهد أبحاث الرمد وهو معهد بحثي لا علاقة له بالطلبة ومعامل المعهد هي معامل بحثية، وفي مستشفى لا يوجد به طلبة وليس لنا أي علاقة بطلبة الأزهر، وعندما طرحت هذا التساؤل في أمن الدولة أجابني أحدهم: "معلش يا دكتور دي قضية كانت بتتعمل ولازم نجيب فيها بعض الأسماء عشان الشكل العام يكتمل".
نادي الشمس
* وما صحة ما تردد من وجود خلاف شخصي بينكم وبين أحد ضباط أمن الدولة وورود اسمكم في القضية على خلفية هذا الخلاف؟
** ليس هناك أي خلاف شخصي، لكن أنا أمارس بعض الأنشطة الاجتماعية في نادي الشمس، حيث قمنا بتأسيس أسرة أطلقنا عليها اسم "أسرة الشروق" وهي أسرة مسجلة وتحمل ترخيصًا من قِبل إدارة النادي، حيث نجتمع مع لجنة الأسر لنعرض عليها كافة أنشطة الأسرة لنحصل على الموافقة بالقيام بهذه الأنشطة، وهي أنشطة اجتماعية وترفيهية وثقافية تتمثل في حفلات ودورات كرة قدم ورحلات وندوات ثقافية لكنها بالتأكيد أسرة تحمل طابعًا إسلاميًّا ولها سمت ديني معين، ومن هنا نشبت بعض الخلافات بيننا وبين الأمن، وبدأ التضييق ومحاولات الحد من حركتنا داخل النادي، لكن هذا كان موقفًا عامًّا لجميع أعضاء الأسرة.
أما مسألة وجود موقف شخصي معي أنا على وجه الخصوص فهذا لم يحدث أبدًا، ولقائي الأول بعاطف الحسيني كان داخل المحكمة ولم أكن سمعت به من قبل، وكما قلت لك الموقف مع الأسرة التي أنتمي إليها وأعمل كمنسقٍ لها.
* عودة إلى البحث العلمي، غياب باحث متميز عن أبحاثه لمدة عام ونصف العام، ماذا يعني له وما النتائج السلبية المترتبة على ذلك؟
** بالطبع تأثرتُ به كثيرًا، كما امتدت آثاره السلبية لباقي الأطباء الذين أقوم بتدريبهم أو بالإشراف على أبحاثهم؛ حيث تعطلت هذه الأبحاث كثيرًا، وكذلك النواب الذين أقوم بتدريبهم على العمليات الجراحية من عمليات ليزر وغيره، فعلى الرغم من وجود زملاء أفاضل إلا أنه وبلا شك غياب أي فردٍ ذي خبرة في مجتمع صغير مثل معهد أبحاث الرمد له أثر كبير، يؤدي إلى عرقلة مسيرة التقدم العلمي، ليس فقط على معهد الرمد بل وعلى المؤسسة الطبية في مصر بشكل عام.
ومما زاد من هذا الأثر أن الاعتقال تم بحق عددٍ من الأطباء وليس بحقي أنا فقط بعضهم في نفس التخصص وبعضهم في تخصصات أخرى مماثلة، فالدكتور محمود أبو زيد والدكتور صلاح الدسوقي والدكتور عصام عبد المحسن، وجميع هؤلاء لهم دورهم في المؤسسة الطبية واعتقالهم أدى إلى عرقلة مسيرة تقدمها.
أزمة جهاز العين
* وماذا عن الجهاز الذي لا يعمل عليه أحد غيركم؟
** بالفعل، يوجد جهاز في معهد أبحاث الرمد يسمى المايكروسكوب الطيفي، يقوم هذا الجهاز بعمل تشريح لطبقات القرنية للإنسان الحي، ومن هنا استمد هذا الجهاز أهميته حيث تمكنا وللمرة الأولى من أخذ صور مقطعية من قرنية إنسان حي، هذا الجهاز تم شراؤه في عام 97 حيث وكلت من قبل المعهد للسفر إلى ألمانيا لشراء هذا الجهاز المهم جدًّا، وهناك حصلت على دورة تدريبية حول كيفية تشغيل الجهاز، هذا الجهاز متطور جدًّا وهو الأول من نوعه في مصر وفي الشرق الأوسط،.
وقمت بعمل العديد من الأبحاث على هذا الجهاز، وعدد من طلبة الدكتوراه يعتمدون عليه بشكلٍ أساسي في أبحاثهم العلمية، وقد توقَّف هذا الجهاز عن العمل منذ اعتقالي وليست هذه كل المشكلة، بل المشكلة أن هذا الجهاز الآن به عطل فني يحتاج إلى إصلاح، وآمل أن نتمكَّن من ذلك في القريب العاجل.
براءة تاجرة المخدرات
* كيف استقبلت قرار اعتقالك خاصةً أنها المرة الأولى التي تتعرض فيها لمثل هذا الموقف؟
** جاءت قوات الأمن لإلقاء القبض علي فلم يجدوني في البيت، وبالرغم من معرفتي بذلك كنت أتردد على المعهد وعلى العيادة بشكلٍ طبيعي، وبعد ذلك بتسعة أيام وأثناء وجودي في العيادة فوجئت بأعداد غفيرة من القوات تقتحم العيادة ليتم إلقاء القبض عليَّ أمام المرضى والموظفين والنواب الذين أقوم بتدريبهم، وكان كل شيء بالنسبة لي مستغربًا ثم أخذوني إلى قسم مدينة نصر ومنه تم ترحيلي إلى التجمع الخامس ليتم عرضي على أمن الدولة.
من المفارقات التي مررت بها أن اسمي كان مسجلاً محمد علي فتحي سليمان بليغ وهو اسم مغاير تمامًا لاسمي، وحاول المحامي الارتكاز على هذه النقطة التي تؤدي إلى نسف القضية من الناحية القانونية، لكن طلبه قوبل بالرفض.
ومن المفارقات أن تاجرة مخدرات كانت في جلسة المحكمة السابقة لجلستي، حصلت على البراءة رغم أن اسمها لم يكن به خطأ بل فقط اسم ناقص!!، أما بالنسبة لي فقد كان الاسم مغايرًا تمامًا فليس في اسمي فتحي أو سليمان، كذلك تاريخ الميلاد ومع ذلك استمرت القضية بالرغم من أن ضابط أمن الدولة وهو الشاهد الرئيسي في القضية قال إنه يتتبعني منذ 6 أشهر، ولا أعرف ماذا كان يتابع إذا كان لا يعرف اسمي أو تاريخ ميلادي!!