تخريب العمل الدعوي.أجندة خفية
القرارات المتخبطة للوزير لم يجد المصريون صعوبةً في تفسيرها، وإيجاد مبررات مختلفة لها، إلا أنهم أجمعوا على نظرية المؤامرة، وعلى وجود أجندة خفية، سواءٌ داخلية أو خارجية، يسعى الوزير لتطبيقها. ذلك لأن أهم قراراته تعد حلمًا حكوميًّا تحاول الحكومة منذ وقت طويل تحقيقه، وهو تأميم المساجد وإخضاعها تمامًا لسيطرة الدولة وأجهزتها الأمنية، وهذا ما أكده الدكتور العجمي الدمنهوري، الذي يرى أن الوزير بتلك القرارات أخضع العمل الدعوي لرغبة الأجهزة الأمنية، باستبعاد الأئمة الذين لا تتوافق آراؤهم مع رغبة الأمن، وإلزام خطباء المساجد بعدم مناقشة القضايا السياسية، سواءٌ الداخلية أم الخارجية، وإلزام كل خطيب مسجد بتحضير الخطبة قبل صلاة الجمعة بأكثر من أسبوع، وتحديد موضوعها المفروض سلفًا من الوزارة، بل وإلزام كل خطيب بألا يتجاوز زمن الخطبة عشرين دقيقة، ومن يرفض هذه التعليمات تتم الإطاحة به
[center][b][color=white]الجامع الأزهر
أما الأجندة الخارجية فتتمثل في موافقة تلك القرارات للمطالب الأمريكية، والخاصة بفرض رقابة مشددة على المساجد، تمنع قيام هذه المساجد بتفريخ مُعادين للعم سام، وإخضاع خطبة الجمعة لرقابة تامة عبر اشتراط توحيدها، وخلوِّها من أي انتقادات أو تحريض ضد الأمريكان والصهاينة، وأن تمارس السلطات قيودًا شديدة على الندوات الدينية ومؤسسات رعاية الفقراء، وصناديق النذور الملحقة بالمساجد، لعدم إساءة التصرف فيها واستغلالها لدعم أنشطة معادية للأمريكان.
وليس هذا فحسب فهناك (لوبي) علماني تغريبي، يستاء من كمّ المظاهر الدينية الموجودة في الساحة المصرية، ولا يُخفي سعيه لإنهاء هذه المظاهر أو جعلها في الحد الأدنى، وهو ما يؤثر بالسلب على الدعوة الإسلامية ويضربها في مقتل، ولا هدفَ منه إلا التضييق على الدعوة وخدمة أهداف أعداء الأمة.
مجمع البحوث يعترض
وقرارات الدكتور زقزوق العشوائية لم تكتفِ بإثارة استياء النخبة الدينية، بل إنها تهدد بإعادة أجواء الصراع بين زقزوق وهيئات إسلامية، على رأسها "مجمع البحوث الإسلامية" الذي أثارته قرارات زقزوق؛ حيث رفض أغلب أعضاء مجمع البحوث الإسلامية القرارات الأخيرة للوزير وتحفَّظوا على أكثرها، متسائلين كيف تُقْدِم الحكومة على إهدار المساجد (أماكن العبادة) وتركها للقطاع الخاص يعبث بها كيف يشاء.
وقد عارض أعضاء المجمع أيضًا فكرة توحيد الأذان، وأشاروا إلى أن الفكرة غير واضحة في ذهن وزير الأوقاف، وزادت معارضتهم عندما أكد لهم وزير الأوقاف أن وزارته ستنظم مناقصاتٍ لإنشاء دوائر لاسلكية في ثلاثة آلاف من مساجد القاهرة بملايين الجنيهات من أموال الأوقاف، التي يحرم الشارع إنفاق مليم واحد منها في غير أغراضها، وإنشاء الدوائر اللاسلكية لا علاقةَ له من قريب أو بعيد بأموال الأوقاف، وقد زاد من غضب أعضاء المجمع خروج بيان بختم وزارة الأوقاف يحذر المصريين مما أسماه "المغالاة في أداء الشعائر والعبادات الدينية"؛ لأن هذا أمرٌ لا يحض عليه الشرع.
ومن ثم رأى أعضاء مجمع البحوث الإسلامية أن وزير الأوقاف كان عليه أن يدرس مخاطر القرارات التي اتخذها، ومدى الضجَّة التي تثيرها مثل هذه القرارات في مجتمع يحترم التدين ويرفض الاقتراب من مظاهره بسوء، فتدخل الوزارة فيما يخص الأذان وصلاة التراويح، تدخل فيما لا يعنيها وسيزيد الأمور تعقيدًا، ويمهد الساحة لصراع بين المؤسسات الدينية المختلفة الذي لا يصب في مصلحة الإسلام.
ويرى القريبون من الدكتور محمود حمدي زقزوق أن الرجل لم يكن يحلم يومًا ما بمنصب وزير الأوقاف، بل كانت كل أحلامه تنتهي عند منصب رئيس جامعة الأزهر، وكان هذا الحلم منطقيًّا للغاية بحسب مؤهلاته الشخصية والعملية، فقبل دخوله الوزارة لم تعرف عنه أي اهتمامات بالشأن العام ولا بنشاط سياسي ملحوظ.
وتشير تفاصيل حياته إلى ذلك؛ حيث درس في كلية اللغة العربية، وبعد حصوله على الليسانس تخصص في التدريس؛ ولذلك عُين مدرسًا في معهد أزهري بالمحلة الكبرى، وظل في المحلة ستة أشهر فقط، ثم انتقل بعد ذلك ليعمل في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية في الأزهر الشريف بالقاهرة، وكانت مهمة زقزوق في هذه الإدارة فحص الكتب والمجلات، وعندما صدر قانونُ تطوير الأزهر عام 1961م أصبح مسئولاً عن شئون الطلبة في جامعة الأزهر.
كان د. حمدي زقزوق موظفًا عاديًا للغاية، لكنْ لا أحدَ ينكر عليه طموحه العلمي الذي دفعه لدراسة اللغة الألمانية، وهو ما مكنه بعد ذلك من الحصول على منحة دراسية في ألمانيا وكان ذلك عام 1962م، وفي ألمانيا سجَّل د. زقزوق نفسه طالبًا بجامعة (ماربورج) وبعد فصل دراسي واحد انتقل إلى ميونخ ليتخصص في الفلسفة.
وعندما عاد من ألمانيا لم يجد شيئًا يعمله، فقد خرج من مصر وهو مجرد مدرس في معهد المحلة الديني، ولم يكن عمله في جامعة الأزهر إلا انتدابًا، لكن قبل أن يعود طالب البعثة إلى المحلة ساقت له الأقدار الدكتور عبد الحليم محمود الذي كان يعمل وقتها عام 1968م رئيسًا لقسم الفلسفة في كلية أصول الدين؛ حيث توسط له ليعمل في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، كان د. زقزوق في حيرة من أمره، فلم يسافر ويتغرب ويحصل على درجة علمية محترمة وفي النهاية يعمل موظَّفًا!!
يد العناية الإلهية أنقذت د. زقزوق فقد أعلنت كلية دار العلوم عن حاجتها لمدرس فلسفة، تقدم للمسابقة وقبل أن يلتحق بدار العلوم أعلنت كلية أصول الدين عن حاجتها هي الأخرى لمدرس فلسفة فتقدم لمسابقتها؛ ليصبح د. زقزوق مدرسًا بها ثم سلك بعد ذلك طريق الترقيات؛ حيث أصبح أستاذًا مساعدًا ثم أستاذًا، ثم رئيسًا لقسم الفلسفة، فوكيلاً للكلية ثم عميدًا، وظلَّ في منصبه هذا أربع دورات متتالية.
لم يظل د. زقزوق في مصر طوال الوقت، كانت هناك مهمة تكوين نفسه ماديًّا، وبالفعل تمت إعارته إلى ليبيا في أوائل السبعينيات، ثم سافر إلى قطر في أوائل الثمانينيات وعندما عاد منها في أكتوبر 1995 تم اختياره وزيرًا للأوقاف خلفًا للدكتور محمد علي محجوب، لم يكن المنصب في توقعات د. زقزوق؛ حيث كان إلى جواره د. أحمد عمر هاشم نائبًا لرئيس جامعة الأزهر، ولدوره السياسي والإعلامي كان متوقَّعًا أن يتم اختياره وزيرًا للأوقاف؛ بل إنَّ صحيفةَ (الوفد) نشرت خبرًا يُفيد أن د. أحمد عمر هاشم أصبح وزيرًا للأوقاف، لكن ما حدث فعلاً أنَّ د. هاشم أصبح رئيسًا للجامعة في حين جلس د. زقزوق على كرسي وزارة الأوقاف.
وحياة الرجل تؤكد أنه ظل طوال عمره موظفًا حكوميًّا مطيعًا، لم يُعرف عنه أي نوع من التمرد؛ ولذلك فإن اختياره كان مناسبًا ليشغل منصب الوزير، وهو منصب في النهاية تنفيذي، يتلقى صاحبه الأوامر لينفِّذها حتى ولو لم يكن مقتنعًا بها.
كان اختيار د. زقزوق غريبًا على الشارع المصري، فالرجل يملك وجهًا غريبًا عليهم، لم يكن له أي حضور إعلامي، ولم تكن له اجتهاداتٌ أو فتاوى يتعرف عليه الناس من خلالها.