لا يستطيع منصفٌ أنْ ينكر أنَّ ثورة يوليو كانت ثورة شعبية بيضاء؛ استطاعت أن تجمع شعب مصر على قلب رجلٍ واحد، وأنها أعادت مصر للمصريين، ولا يستطيع أحد حتى لو كان من أعداء الثورة أن يطعن في رجالها وفي وطنيتهم وحبهم لمصر.
ولكن- وللإنصاف- فإن الثورة ورجالها ابتُلوا بشيئين كان لهما أكبر الأثر في انحراف مسار الثورة عمَّا كان مرسومًا له، وهذان الشيئان هما: الكرسي, وطبيعة هذا الشعب.
أولاً الكرسي: هذا الجماد الملعون الذي يصيب كل مَن يجلس عليه بالجمود والتيبُّس، والمصنوع من أجود أنواع الصمغ بحيث يصعب على من يجلس عليه أن يفارقه إلا جثة هامدة، سواءٌ ميتًا أو مقتولاً أو مسجونًا.
هذا الملعون له بريق يخطف بصر من يجلس عليه بحيث يحجب عنه رؤية كل ما عداه.
كان يمكن لهذه الثورة أن تحقق نجاحات غير مسبوقة لهذا البلد، وكان يمكن أن تصل بها إلى مصافِّ الدول العظمى؛ حيث كانت كل مقومات النجاح مهيأة من حيث الموقع والثروات، والقوة البشرية والفكرية والعلمية، والريادة التي تحظى بها في العالم العربي والإسلامي والإفريقي والعالمي، فقط لو أن الضباط الأحرار اقتنعوا بأن قدراتهم عسكرية فقط وأن السياسة لها رجالها.
كان يجب أن يسلموا السلطة لإدارة مدنية تدير الدولة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا مع وجودهم كسلطة عسكرية تملك القوة لردع أي مخالف.
لو حدث هذا لكانوا أعظم العظماء في التاريخ، ولكانوا خُلِّدوا في قلوب الأمة، ولكن هذا البريق العجيب لذلك الكرسي اللعين الذي تنهار أمامه أية مقاومة، والذي يجعل الفرد لا يرى إلا مصلحته فقط، ولا يرى سوى ذاته تحيط به هالة من الأنانية والنرجسية التي تجعل الكل على خطأ وهو فقط على صواب.. الكل لا يدري مصلحة هذا البلد ولا حتى مصلحتهم وهو فقط أدرى بمصلحة البلاد والعباد!!
هو فقط صاحب الحكمة والرأي السديد وبُعد النظر، وما عداه فليذهب إلى الجحيم.. من يُخرج صوتًا فمصيره إما القتل أو الاعتقال أو التشريد.
هذا الكرسي لا يسمح إلا بالحاكم الواحد، والرأي الواحد، والرؤية الواحدة، والويل كل الويل لمَن يرى غير ذلك أو حتى يبدي نقدًا.
أما الابتلاء الثاني وهو طبيعة هذا الشعب: كانت هناك دائمًا فجوة بينه وبين حكامه، وفجأةً.. وجد نفسه محكومًا من أفرادٍ خرجوا من بينه؛ عاشوا مثله، يأكلون نفس الأكل، ويلبسون نفس الملابس، ويحلمون نفس الحلم، لغتهم واحدة، ومصيرهم واحد.. كانت نقلةً أفقدته توازنه، وشعر أن كل أحلامه وطموحاته ستتحقق، وأنه هو الذي يحكم، خصوصًا أن الثورة بدأت بقوة، ووزَّعت الأراضيَ، وأقامت شركات وبنوكًا وطنية، وفتحت التوظيف لكافة طوائف الشعب، وأخرجت المحتل من البلاد، وواجهت العدوان الثلاثي على مصر بشجاعة، فأحب الشعب الثورة ورجالها.
وكما نعلم جميعًا بطبيعة شعبنا العاطفي وأنه إذا أحب لا يرى أي عيب في محبوبه، تحول هذا الحب إلى تأليه الحاكم؛ فكل ما يفعله الحاكم هو تفضُّلٌ منه وكرم، وحتى إذا أخطأ فليس العيب في الحاكم، إنما في الآخرين الذين لم يستوعبوا وجهة نظر الزعيم الملهم، فأصبح الحاكم في القلوب والعقول، وسخَّرت كل طاقات الدولة لتمجيد وتعظيم الزعيم القائد، فأي نفس بشرية تطيق هذا ولا تنحرف أو تعوج وتفقد سلامتها وسماحتها؟! فازداد البطش والتنكيل بالمخالفين للزعيم، والشعب يصفق ويهتف، حتى مع أشد حالات الانكسار والهزيمة في 67 لم يكلَّف الشعب نفسه التفكير والتقييم لما يحدث وحدث ويحاسب المخطئ، بل خرج ليبايع زعيمًا ونظامًا!!
إنه شعبنا المصري الطيب، صاحب براءة الاختراع لهتاف "بالروح والدم نفديك يا ريس"!!
أي شعب هذا الذي يختزل مقدراته في فردٍ ولا يحاسبه أو حتى يعاتبه أو يقوِّمه؟! ولا أزعم لو قلت إن هذا الشعب العظيم قد خلق لنفسه دورًا من بداية الثورة غير الهتاف والتصفيق لربما كان حال الأمة تغير كثيرًا، ولربما استطاع أن يقوِّمها ويقوِّم إنجازاتها ويحافظ عليها حتى الآن، ولكن العود الأخضر إذا مال واعوج ولم يقوِّمه أحد تيبَّس على عوجه ولا يمكن أن يستقيم بعد ذلك.
على وجه العموم.. فإن ثورة يوليو كانت فترةً فارقةً في تاريخ مصر وإنجازاتها لا ينكرها إلا جاحد، وإن كنا ننقد انحرافَ بعض شخوصها إلا أنها كثورة أعادت اكتشاف المواطن المصري، ولكن..
دعونا نعود إلى عنوان هذا المقال، وهو: ماذا تبقى من ثورة يوليو؟!.. نعلم جميعًا أن ثورة يوليو قامت على عدة مبادئ وأهداف مهمة، فلنقارن بين مبادئها وأهدافها وواقعنا الحالي بعد 55 سنة من قيامها، ولننظر ماذا سيظهر لنا:
الهدف الأول: القضاء على الاستعمار والاحتلال:
وهل ما نراه اليوم من تبعية ونفوذ لبعض سفارات الدول الكبرى وتدخلها في الكثير من القرارات ما هو إلا عودة إلى الاحتلال، ولكن بصور أخرى مهذبة وليست مباشرة إن صح التعبير!!
الهدف الثاني: القضاء على الإقطاع:
وما يجري اليوم.. أليس هو الإقطاع بعينه من تملُّك أفرادٍ من المحظوظين والمقربين آلاف الأفدنة من الأراضي بتخصيص مباشر لهم تحت مسميات وهمية كغطاء إعلامي لهذه الجريمة؟!
الهدف الثالث: القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال:
لا أزعم إن قلت إن الاحتكار في أيامنا تلك أشد وأنكى من أيام ما قبل الثورة؛ فلقد كانت بعض المواد في أيدي العديد من الباشاوات، أما اليوم فهناك سلع حيوية ومهمة في يد باشا واحد فقط!!
كانت تؤمم الشركات لمحاربة الاحتكار، واليوم تخصخص الشركات لتكريس الاحتكار في يد بعض رجال الأعمال النافذين.
الهدف الرابع: إقامة جيش وطني قوي:
ومع عملية السلام واتفاقية كامب ديفيد المزعومة، والتي تعطينا سيادة ناقصة على تراب سيناء، تم تحييد الجيش المصري، والذي ما زال يحمل تقدير وحب الشعب بجميع أشكاله وتوجهاته.
الهدف الخامس: إقامة حياة ديمقراطية سليمة:
وهذا الهدف في غنى عن عمل مقارنة بينه وبين ما نحياه من قمع وتنكيل بالمعارضين والشرفاء، وعدم وجود حياة حزبية حقيقية في مصر، ووجود آلاف المعتقلين، وتأميم النقابات، وشل منظمات المجتمع المدني.. هي حالة مصرية فريدة توضح حالة الاحتقان والانسداد للحياة السياسية في مصر.
الهدف السادس: إقامة العدالة الاجتماعية:
وهل يمكن أن يقول عاقل أو منصف أن في مصر الآن عدالة في توزيع الثروة؟! فما نحياه ونشاهده إما الثراء الفاحش، أو الفقر المدقع، بعد أن تآكلت الطبقة المتوسطة بشكلٍ كبير جدًّا وتحوَّلت إلى طبقةٍ فقيرةٍ هي الأخرى!!
نكتفي بمقارنة تلك الأهداف، ونذكر بعض الأهداف الأخرى على عجالة، وأترك للقارئ الكريم المقارنة بينها وبين ما نحياه اليوم كواجبٍ منزلي له.
- مساعدة الحركات الوطنية في الدول العربية والإفريقية والعالم.
- غرس مظاهر العزة والكرامة في نفوس أبناء الشعب.
- تنمية المشاعر الوطنية وحب تراب الوطن.
- تأصيل عروبة مصر وإسلاميتها.
- مواجهة الإمبريالية؛ وعلى رأسها أمريكا.
- قضية فلسطين قضية محورية.
وتبقى كلمة: "ثورة يوليو أعادت الكرامة لمصر والمصريين"؛ فكان المصري عندما يسافر إلى أية دولة عربية أو غربية يقابل بحفاوة واهتمام كبيرَين.. ثورة يوليو يتم الاحتفال بها الآن بينما يجري بيع أراضي الوطن بالمتر، وبنسبة 100% لمستثمرين أجانب!!
أظن أنني لا أبالغ إن قلت أنه ما تبقَّى من ثورة 23 يوليو 1952م بعد 56 سنةً على قيامها هو العطلة السنوية التي نأخذها إجازة!!