ماذا جرى للرجل ؟ ..
كنت أتصور نفسى أحياناً من مريديه ، أحضر ندوات ومحاضرات له ، أشاهده وهو يحتدم فى الحوار مع متطرفين فيلجمهم ، مع أدعياء فيكشفهم ، يصارع الأفكار التقليدية فى تفسير القرآن الكريم ، ويفتش بالعقل عن صحة أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم ..
التقيت فى ندواته مع جمهور من المفكرين والعلماء الشبان ، يتفقهون فى دينهم وينتصرون للعقل والحرية ، وكنا نشكر دائماً هذا الشيخ العالم الذى كانت ندوته سبباً لتعارفنا ، وحرصت على استضافته فى برنامج تليفزيونى كنت أقوم بإعداده ، كذلك كان هو الشيخ الذى رشحته بحماس وإلحاح لتقديم برنامج دينى فى قناة فضائية أعمل بها ، وتابعته وأنا فخور به دون أن أتعرف عليه أكثر مما ينبغى ، مكتفياً بقراءة أعماله ومتابعة ندواته ، حتى قرأت يوماً خبر تعيينه فى منصبه الرسمى ...
شهراً بعد شهر ، ومناسبة بعد أخرى ، وحدثاً بعد آخر ، إذا بهذا العالم يقترب من السلطة ويبعد عن العلم ، يتخلى عن سماحته ويتكلم فى المسموح فقط ، يرجع فى أفكار ويتراجع عن مواقف ، تذوى صوفيته وتتمخطر ذاته ..
إذا بهذا العالم الجليل تخطفه السلطة وتتخطفه الدنيا ، فلا هو الشيخ المستنير بل الملبى المطيع ، ولا هو الحر بل المربوط بالسلطان ، ولا هو المقدام المبادر بل هو الخائف الوجل أن يقول رأياً أو يتحدث فيما لا يرضى السادة والساسة ..
يا ربى ! أهذا ما تفعله السلطة والسلطان فى رجل فكر وعالم دين ؟! تغرى إلى هذا الحد وتغوى إلى هذه الدرجة ؟! فإذا كانت قد أنزلت عالماً من مكانه ورمت به من مكانته ، وضعف أمامها الزاهد المتصوف ، فما الذى يمكن أن تفعله مع أستاذ جامعى نصف نظيف يقدم رجلاً فى الشرف ويؤخر رجلاً فى الفساد ؟! ماذا تفعل فى ضابط جاهل او رجل أعمال نصف مثقف ، أو موظف تعود على الطاعة والنطاعة ؟! ..
إذا كان الاقتراب من السلطان والجلوس على مقعد السلطة والنفوذ والأمر والنهى فى دولة مثل مصر هذه الأيام أضعف مقاومة عالم وانتقل به من فسطاط العلم والفكر والترفع إلى فسطاط محاباة الرئيس والمشى فى ركابه والزحف فى موكبه ، إذا كانت السلطة تمكنت من عالم فقيه ، فمن السهل عليها جداً أن تفرم أى واحد آخر دخلها يظن نفسه شريفاً أو يعتقد فى نفسه أنه أبو الرجال فتجيبه الأرض ..
ثم إذا كان من يسعون للسلطة والحكومة هم فى الأساس جماعة من المشتاقين والنهازين للفرص والراغبين فى القفز على ظهر البلد كى ينهبوا فيها ويدلدلوا رجليهم فمن البديهى إذن أن تجعلهم السلطة خدماً لها وخداماً .
ظاهرة هذا الفقيه تسمح لنا بفهم قوة السلطة الفاسدة والمستبدة التى تصنع من رجالها تروساً فى آلة ضخمة وجهمة ومنظمة لا يمكن أن تضم داخلها سوى المطيع الخانع والشريك المتواطئ ، لا أريد أن نسمع إذن هذا الكلام الطيب عن أن فلاناً فى السلطة ولكنه رجل شريف ، يا سيدى على عينى ورأسى ، لكن الحقيقة أن هذا النظام يضم رجالاً شرفاء طبعاً وجداً ، ولكنه نظام غير شريف ، نظام يعيش على الاستبداد والفساد ، تزوير الانتخابات وتأليه الرئيس وتوريث الابن ، من اين يملك هذا النظام شرفاً إذن ( أتحدث عن الشرف السياسى ، أما الشرف الأخلاقى فالمسئولون كلهم ملائكة تمشى على الأرض ) ؟! ..
لا تقل لى إن هناك رجلاً شريفاً يرضى بتعذيب المحتجزين فى الاقسام والسجون ! ..
لا تقلى لى إن رجلاً شريفاً يرضى بنفاق الحاكم وتنزيهه عن الخطأ والمساءلة ! ..
لا تقل لى إن رجلاً محترماً يرضى أن تضم سجون مصر ظلماً وبلا محاكمات أكثر من عشريف ألف معتقل ! ..
لا تقل لى إن رجلاً شريفاً سيرى نهب البلد من رجال أعمال السلطة والحزب ويسكت ! .. إلا إذا كانوا غيروا معانى الرجولة والشرف هذه الأيام ..
ساعتها كل شئ جائز !